طائفة من
روايات أهل البيت وغيرهم في التنصيص على عدم النص لإمام بعد رسول الله r:
فمِن روايات أئمة أهل البيت في ذلك:
أولا: ما جاء
في صحيح البخاري([1]): حيث أورَده صاحب الصحيح بسنده عَنْ الزُّهْرِيِّ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ r فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ
فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ r ؟ قَالَ: أَصْبَحَ -بِحَمْدِ اللَّهِ- بَارِئًا،
فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: أَلا تَرَاهُ، أَنْتَ –وَاللَّهِ- بَعْدَ
الثَّلاثِ عَبْدُ الْعَصَا([2])، =وفي موضع: بَعْدَ ثَلاثٍ=، وَاللَّهِ
إِنِّي لأُرَى رَسُولَ اللَّهِ r
سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ، وَإِنِّي لأَعْرِفُ فِي وُجُوهِ بَنِي
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَنَسْأَلَهُ فِيمَنْ يَكُونُ
الأَمْرُ؟ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرْنَاهُ
فَأَوْصَى بِنَا! = وفي موضع: اذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا
الأَمْرُ، إِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا عَلِمْنَاهُ
فَأَوْصَى بِنَا=، قَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ r فَيَمْنَعُنَا لا يُعْطِينَاهَا
النَّاسُ أَبَدًا، وَإِنِّي لا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ r أَبَدًا .
شرح الحديث:
قَوْله في الأثر: (هَذَا الأَمْر) يعني الإمامة والخلافة، قال الحافظ
ابن حجر: « قَوْله: هَذَا الأَمْر) أَيْ:
الْخِلافَة، وَفِي مُرْسَل الشَّعْبِيّ عِنْد ابْن سَعْد " فَنَسْأَلهُ مَنْ
يَسْتَخْلِف، فَإِنْ اسْتَخْلَفَ مِنَّا فَذَاكَ ".
قَوْله: (فَأَوْصَى بِنَا) فِي مُرْسَل الشَّعْبِيّ " وَإِلا
أَوْصَى بِنَا فَحُفِظْنَا مِنْ بَعْده " وَلَهُ مِنْ طَرِيق أُخْرَى
"، فَقَالَ عَلِيّ: وَهَلْ يَطْمَع فِي هَذَا الأَمْر غَيْرنَا. قَالَ: أَظُنّ
وَاَللَّه سَيَكُونُ ". قَوْله: (لا يُعْطِينَاهَا النَّاس بَعْده) أَيْ:
يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِمَنْعِ رَسُول اللَّه r إِيَّاهُمْ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ
فِي رِوَايَة لابْنِ سَعْد. قَوْله: (لا أَسْأَلهَا رَسُول اللَّه r) أَيْ: لا أَطْلُبهَا مِنْهُ، وَزَادَ ابْن سَعْد
فِي مُرْسَل الشَّعْبِيّ فِي آخِره: " فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيّ r قَالَ الْعَبَّاس لِعَلِيٍّ:
اُبْسُطْ يَدك أُبَايِعك تُبَايِعك النَّاس، فَلَمْ يَفْعَل » ([3]).
فهذا الحديث عظيم في إثبات أنّ عليًّا t
نفسَه معترفٌ بعدم التنصيص على خلافته التي تزعمُها السبئيّةُ والاثنا عشرية، وكذلك
الوصية والتنصيص على غيره، لِهذا قال الحافظ ابن حجر في التعليق عليه ذاكرًا
فوائده من كلام المهلب: « فِيهِ:
جَوَاز الْيَمِين عَلَى غَلَبَة الظَّنّ. وَفِيهِ: أَنَّ الْخِلافَة لَمْ تُذْكَرْ
بَعْد النَّبِيّ r لِعَلِيٍّ أَصْلا، لأَنَّ الْعَبَّاس
حَلَفَ أَنَّهُ يَصِير مَأْمُورًا لا آمِرًا؛ لِمَا كَانَ يَعْرِف مِنْ تَوْجِيه النَّبِيّ
r بِهَا إِلَى غَيْره، وَفِي
سُكُوت عَلِيٍّ دَلِيل عَلَى عِلْم عَلِيّ بِمَا قَالَ الْعَبَّاس. قَالَ: وَأَمَّا
قَوْل عَلِيّ لَوْ صَرَّحَ النَّبِيّ r بِصَرْفِهَا عَنْ بَنِي عَبْد
الْمُطَّلِبِ لَمْ يُمَكِّنهُمْ أَحَدٌ بَعْده مِنْهَا فَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ؛ لأَنَّهُ
r قَالَ: " مُرُوا أَبَا
بَكْر فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " وَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَمَرْت عُمَر فَامْتَنَعَ،
ثُمَّ لَمْ يَمْنَع ذَلِكَ عُمَر مِنْ وِلايَتهَا بَعْد ذَلِكَ. قُلْت: وَهُوَ كَلام
مَنْ لَمْ يَفْهَم مُرَاد عَلِيٍّ. وَقَدْ قَدَّمْت فِي شَرْح الْحَدِيث فِي الْوَفَاة
النَّبَوِيَّة بَيَان مُرَاده، وَحَاصِله أَنَّهُ إِنَّمَا خَشِيَ أَنْ يَكُون مَنْعُ
النَّبِيّ r
لَهُمْ مِنْ الْخِلافَة حُجَّة قَاطِعَة بِمَنْعِهِمْ مِنْهَا عَلَى
الاسْتِمْرَار، تَمَسُّكًا بِالْمَنْعِ الأَوَّل لَوْ رَدَّهُ بِمَنْعِ الْخِلافَة
نَصًّا، وَأَمَّا مَنْع الصَّلاة فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَنْع الْخِلافَة، وَإِنْ
كَانَ فِي التَّنْصِيص عَلَى إِمَامَة أَبِي بَكْر فِي مَرَضه إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ
أَحَقّ بِالْخِلافَةِ فَهُوَ بِطَرِيقِ الاسْتِنْبَاط لا النَّصّ. وَلَوْلا قَرِينَة
كَوْنه فِي مَرَض الْمَوْت مَا قَوِيَ، وَإِلا فَقَدْ اسْتَنَابَ فِي الصَّلاة قَبْل
ذَلِكَ غَيْره فِي أَسْفَاره وَاَللَّه أَعْلَم. وَأَمَّا مَا اسْتَنْبَطَهُ أَوَّلا
فَفِيهِ نَظَر؛ لأَنَّ مُسْتَنَدَ الْعَبَّاس فِي ذَلِكَ الْفَرَاسَة وَقَرَائِن الأَحْوَال،
وَلَمْ يَنْحَصِر ذَلِكَ فِي أَنَّ مَعَهُ مِنْ النَّبِيّ r النَّصّ عَلَى مَنْع عَلِيّ
مِنْ الْخِلافَة، وَهَذَا بَيِّنٌ مِنْ سِيَاق الْقِصَّة، وَقَدْ قَدَّمْت هُنَاكَ
أَنَّ فِي بَعْض طُرُق هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْعَبَّاس قَالَ لِعَلِيٍّ بَعْد أَنْ
مَاتَ النَّبِيّ r:
ابْسُطْ يَدك أُبَايِعْكَ فَيُبَايِعَكَ النَّاس فَلَمْ يَفْعَل، فَهَذَا دَالٌّ
عَلَى أَنَّ الْعَبَّاس لَمْ يَكُنْ عِنْده فِي ذَلِكَ نَصٌّ، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْل الْعَبَّاس فِي هَذِهِ الرِّوَايَة لِعَلِيٍّ " أَلا تَرَاهُ، أَنْتَ
وَاَللَّه بَعْد ثَلاث إِلَخْ " قَالَ ابْن التِّين: الضَّمِير فِي تَرَاهُ
لِلنَّبِيِّ r، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الأَظْهَر أَنَّهُ ضَمِير
الشَّأْن، وَلَيْسَتْ الرُّؤْيَة هُنَا الرُّؤْيَة الْبَصَرِيَّة، وَقَدْ وَقَعَ فِي
سَائِر الرِّوَايَات " أَلا تَرَى " بِغَيْرِ ضَمِير. وَقَوْله
" لَوْ لَمْ تَكُنْ الْخِلافَة فِينَا آمَرْنَاهُ " قَالَ ابْن التِّين:
فَهُوَ بِمَدِّ الْهَمْزَة، أَيْ: شَاوَرْنَاهُ، قَالَ: وَقَرَأْنَاهُ بِالْقَصْرِ
مِنْ الأَمْر. قُلْت: وَهُوَ الْمَشْهُور. وَالْمُرَاد سَأَلْنَاهُ؛ لأَنَّ صِيغَة
الطَّلَب كَصِيغَةِ الأَمْر، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُؤَكِّد عَلَيْهِ فِي السُّؤَال
حَتَّى يَصِير كَأَنَّهُ آمِرٌ لَهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيّ: فِيهِ دَلالَة
عَلَى أَنَّ الأَمْر لا يُشْتَرَط فِيهِ الْعُلُوّ وَلا الاسْتِعْلاء » ([4]).
ثانيًا: عن سَعِيد بْن جُبَيْرٍ([5]) أنه سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: « يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ
بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ! مَا يَوْمُ
الْخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ r وَجَعُهُ، فَقَالَ: " ائْتُونِي
بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا؛ لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا "، فَتَنَازَعُوا، وَلا يَنْبَغِي عِنْدَ
نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: مَا لَهُ أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ([6]).
فَقَالَ: " ذَرُونِي فَالَّذِي
أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِثَلاثٍ؛
...الحديث([7]).
وفي لفظ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أيضًا، قَالَ: لَمَّا حُضِرَ
رَسُولُ اللَّهِ r وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ، فَقَالَ
النَّبِيُّ r
هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ
الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا،
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتِلافَ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:
قُومُوا . قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ
كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ r وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ
ذَلِكَ الْكِتَابَ؛ لاخْتِلافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ ([8]).
وصُرِّح في رواية عَنْه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بقائل مقولَة: (قَدْ غَلَبَ
عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ) وأنه عُمَرُ
بن الخطاب، حيث قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ r وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِيُّ r: هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا
بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ r قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ
وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ؛ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ؛
فَاخْتَصَمُوا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ النَّبِيُّ r كِتَابًا؛ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتِلافَ
عِنْدَ النَّبِيِّ r،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:
" قُومُوا ". .. الأثر ([9]).
ومعلومٌ أنّ رسول الله r
لَم يَمُت إلا بعد ما بيّن كلّ الدين حلالا وحرامًا، واجبات ومستحبات ومكروهات؛
فكمُل بِبَيانه الدين. وهذا الكتاب الذي أراد كتابته قبل موته بأربعة أيام (يَوْم
الْخَمِيسِ) لَم يكُن من الواجبات عليه تبليغُه ولا من المستحبات، لوفاته قبل
كتابته([10])، ولذا قال النووي في شرح الحديث: « وَأَمَّا
كَلام عُمَر t فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاء
الْمُتَكَلِّمُونَ فِي شَرْح الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَلائِل فِقْه عُمَر وَفَضَائِله،
وَدَقِيق نَظَره؛ لأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُب r أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا
عَنْهَا؛ وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَة عَلَيْهَا لأَنَّهَا مَنْصُوصَة لا مَجَال لِلاجْتِهَادِ
فِيهَا، فَقَالَ عُمَر: حَسْبنَا كِتَاب اللَّه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (مَا فَرَّطْنَا
فِي الْكِتَاب مِنْ شَيْء) وَقَوْله (الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ)، فَعُلِمَ
أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَكْمَلَ دِينه؛ فَأَمِنَ الضَّلال عَلَى الأُمَّة، وَأَرَادَ
التَّرْفِيه عَلَى رَسُول اللَّه r، فَكَانَ عُمَر أَفْقَه مِنْ ابْن عَبَّاس وَمُوَافِقِيهِ
» ([11]).
ثالثًا: عن عَائِشَة رضي الله عنها، قَالَتْ: « وَارَأْسَاهْ! فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ r: " ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ؛
فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ، وَأَدْعُو لَكِ "، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلِيَاهْ!
وَاللَّهِ إِنِّي لأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ
آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: " بَلْ أَنَا، وَارَأْسَاهْ!
لَقَدْ هَمَمْتُ، أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ،
وَأَعْهَدَ، أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ
قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ
وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ "([12]).
وفي
حديث آخر لعَائِشَة أنها كَانَتْ تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ r لَمَّا دَخَلَ بَيْتها، وَاشْتَدَّ بِهِ
وَجَعُهُ، قَالَ: " هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ
أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ "، قالت: فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ
لِحَفْصَةَ ... » الحديث متفقٌ عليه ([13]).
ويوضحه
والحديثَ الذي قبلَه روايةُ مسلم للحديث الأسبق، حيث جاء فيه أنّ رَسُول اللهِ r قال لزوجه عَائِشَة رضي
الله عنها في هذا المرض: " ادْعِي لِي أَبَا بَكْر أبَاك، وَأَخَاك، حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا،
فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُول قَائِل: أَنَا أَوْلَى، ويَأْبَى
اللَّه وَالْمُؤْمِنُونَ إِلا أَبَا بَكْر "([14]).
قال
النووي في شرح الحديث بعد إيراده ذاكرًا المشْكل فيه: « هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة: (أَنَا أَوْلَى)
بِتَخْفِيفِ: (أَنْ وَلا) أَيْ يَقُولُ: أَنَا أَحَقُّ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُول: بَلْ
يَأْبَى اللَّه وَالْمُؤْمِنُونَ إِلا أَبَا بَكْر. وَفِي بَعْضهَا أَنَا أَوْلَى،
أَيْ: أَنَا أَحَقّ بِالْخِلافَةِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرِّوَايَة أَجْوَدُهَا،
وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (أَنَا وَلِي) بِتَخْفِيفِ النُّون وَكَسْر اللام، أَيْ: أَنَا
أَحَقُّ، وَالْخِلافَة لِي. وَعَنْ بَعْضهمْ (أَنَا وَلاهُ) أَيْ: أَنَا الَّذِي وَلاّهُ
النَّبِيّ r، وَبَعْضُهُمْ: (أَنَّى وَلاّهُ) تَشْدِيد النُّون
أَيْ: كَيْف وَلاهُ؟ » ([15]).
ثم ذكَر من فقه الحديث فقال: « فِي هَذَا
الْحَدِيث دَلالَة ظَاهِرَة لِفَضْلِ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق t، وَإِخْبَار مِنْهُ r بِمَا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ
بَعْد وَفَاته، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَأْبَوْنَ عَقْد الْخِلافَة لِغَيْرِهِ. وَفِيهِ:
إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ سَيَقَعُ نِزَاع، وَوَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ. وَأَمَّا طَلَبُهُ
لأَخِيهَا مَعَ أَبِي بَكْر فَالْمُرَاد أَنَّهُ يَكْتُبُ الْكِتَاب. وَوَقَعَ فِي
رِوَايَة الْبُخَارِيّ: (لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أُوَجِّه إِلَى أَبِي بَكْر وَابْنه وَأَعْهَد)
... وَهُوَ أَخُو عَائِشَة، وَتُوَضِّحُهُ رِوَايَة مُسْلِم: أَخَاك » ([16]).
مسألة:
ما
الذي أراد النبِيّ r
كتابتَه، ثم أحجم عنه؟
وفي بيان ذلك والتعليق على ما قال عمر
من أنه: ( .. حسبُنا كتابُ الله) قال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث من (كتاب
العلم من الجامع الصحيح): « قَوْله: (غَلَبَهُ الْوَجَع)
أَيْ: فَيَشُقّ عَلَيْهِ إِمْلاء الْكِتَاب أَوْ مُبَاشَرَة الْكِتَابَة، وَكَأَنَّ
عُمَر t فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّطْوِيل،
قَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيْره: ائْتُونِي أَمْر، وَكَانَ حَقّ الْمَأْمُور أَنْ يُبَادِر
لِلامْتِثَالِ، لَكِنْ ظَهَرَ لِعُمَر t مَعَ طَائِفَة
أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوب، وَأَنَّهُ مِنْ بَاب الإِرْشَاد إِلَى الأَصْلَح فَكَرِهُوا
أَنْ يُكَلِّفُوهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشُقّ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَة مَعَ اسْتِحْضَارهمْ
قَوْله تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَاب مِنْ شَيْء) وَقَوْله تَعَالَى: (تِبْيَانًا
لِكُلِّ شَيْء)، وَلِهَذَا قَالَ عُمَر: حَسْبنَا كِتَاب اللَّه. وَظَهَرَ لِطَائِفَةٍ
أُخْرَى أَنَّ الأَوْلَى أَنْ يُكْتَب لِمَا فِيهِ مِنْ امْتِثَال أَمْره وَمَا يَتَضَمَّنهُ
مِنْ زِيَادَة الإِيضَاح، وَدَلَّ أَمْره لَهُمَا بِالْقِيَامِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ
الأَوَّل كَانَ عَلَى الاخْتِيَار، وَلِهَذَا عَاشَ r بَعْد ذَلِكَ
أَيَّامًا وَلَمْ يُعَاوِد أَمْرَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَتْرُكهُ
لاخْتِلافِهِمْ لأَنَّهُ لَمْ يَتْرُك التَّبْلِيغ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَ، وَقَدْ
كَانَ الصَّحَابَة يُرَاجِعُونَهُ فِي بَعْض الأُمُور مَا لَمْ يَجْزِم بِالأَمْرِ،
فَإِذَا عَزَمَ اِمْتَثَلُوا. وَسَيَأْتِي بَسْط ذَلِكَ فِي كِتَاب الاعْتِصَام إِنْ
شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَقَدْ عُدَّ هَذَا مِنْ مُوَافَقَة عُمَر t. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَاد بِالْكِتَابِ، فَقِيلَ:
كَانَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُب كِتَابًا يَنُصّ فِيهِ عَلَى الأَحْكَام لِيَرْتَفِع الاخْتِلاف،
وَقِيلَ: بَلْ أَرَادَ أَنْ يَنُصّ عَلَى أَسَامِي الْخُلَفَاء بَعْده حَتَّى
لا يَقَع بَيْنهمْ الاخْتِلاف، قَالَهُ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ. وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ
r قَالَ فِي أَوَائِل مَرَضه وَهُوَ عِنْد عَائِشَة:
" ادْعِي لِي أَبَاك وَأَخَاك حَتَّى أَكْتُب كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَاف أَنْ
يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُول قَائِل، وَيَأْبَى اللَّه وَالْمُؤْمِنُونَ إِلا أَبَا
بَكْر " أَخْرَجَهُ مُسْلِم. وَلِلْمُصَنِّفِ مَعْنَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ
يَكْتُب، وَالأَوَّل أَظْهَر، لِقَوْلِ عُمَر: كِتَاب اللَّه حَسْبنَا. أَيْ: كَافِينَا.
مَعَ أَنَّهُ يَشْمَل الْوَجْه الثَّانِي؛ لأَنَّهُ بَعْض أَفْرَاده. وَاَللَّه أَعْلَم.
( فَائِدَة ): قَالَ الْخَطَّابِيُّ:
إِنَّمَا ذَهَبَ عُمَر إِلَى أَنَّهُ لَوْ نَصَّ بِمَا يُزِيل الْخِلاف لَبَطَلَتْ
فَضِيلَة الْعُلَمَاء وَعُدِمَ الاجْتِهَاد. وَتَعَقَّبَهُ ابْن الْجَوْزِيّ بِأَنَّهُ
لَوْ نَصَّ عَلَى شَيْء أَوْ أَشْيَاء لَمْ يَبْطُل الاجْتِهَاد لأَنَّ الْحَوَادِث
لا يُمْكِن حَصْرهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا خَافَ عُمَر أَنْ يَكُون مَا يَكْتُبهُ فِي
حَالَة غَلَبَة الْمَرَض فَيَجِد بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ سَبِيلا إِلَى الطَّعْن
فِي ذَلِكَ الْمَكْتُوب، وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدهُ فِي أَوَاخِر الْمَغَازِي » ([17]).
تنبيه:
تقدم عن طائفة من أهل بيت رسول الله كعباس
وعلي وعائشة وابن عباس y النصّ على عدم تنصيص مَن
يكون خليفةَ رسول الله منه r بعد وفاته، وهنا وفي آخر
هذا البحث المختصر أحببتُ أنْ أورِد طائفة أخرى دالة على ذلك من غير أهل البيت من
بقية الصحابة y، فمِن ذلك:
أولا: ما روي عَنْ الزُّهْرِيِّ
أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ t أَنَّهُ
سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ
مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَشَهَّدَ وَأَبُو
بَكْرٍ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ قَالَ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَدْبُرَنَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
آخِرَهُمْ فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ هَدَى اللَّهُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ
بِأُمُورِكُمْ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ
قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى
الْمِنْبَرِ
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ اصْعَدْ الْمِنْبَرَ
فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً
ثانيًا: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ: أَلا تَسْتَخْلِفُ؟
قَالَ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ
خَيْرٌ مِنِّي؛ أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛
رَسُولُ اللَّهِ r. فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ:
رَاغِبٌ رَاهِبٌ، وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا، لا لِي وَلا عَلَيَّ،
لا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَلا مَيِّتًا » ([18]).
القرآن
واحدٌ، وليس لعلي بن أبي طالبٍ ولا لبقية أهل بيت الرسول r
كتابٌ ترَكَه لَهم الرسولُ r، وخصّهم به: كما شَهِد بذلك عليٌّ
لَما سألَه طائفةٌ مِن أخصّ تلامذته، خلافًا لِما تدّعيه الرافضة من وجود مصحف له
أو لفاطمة أو الجفر، مغايرٌ لِما عند المسلمين،
ففي
الصحيحين: أنّ أَبا جُحَيْفَةَ وَهْبَ السُّوَائِيَّ، قَالَ:
قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ([19]) كِتَابٌ؟
وفي أخرى: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا
لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ وَقَالَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ([21])؟
فجاء جواب عليّ t هكذا مرة:
1- لا، إِلا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ
أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: فَمَا
فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ
بِكَافِر.
2- وفي لفظ أنّه t حلَف في مطلع الإجابة: لا، وَالَّذِي فَلَقَ
الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ
رَجُلا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. ...الأثر.
3- وعند مسلم بإكذاب زاعم ذلك: خَطَبَنَا
عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب -رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ- فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ
عِنْدنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلا كِتَاب اللَّه وَهَذِهِ الصَّحِيفَة فَقَدْ كَذَبَ)
([22]).
قال النووي في شرح الحديث: « قَوْله: خَطَبَنَا
عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب -رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ- فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ
عِنْدنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلا كِتَاب اللَّه وَهَذِهِ الصَّحِيفَة فَقَدْ كَذَبَ)
هَذَا تَصْرِيح مِنْ عَلِيّ -رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ- بِإِبْطَالِ مَا تَزْعُمهُ
الرَّافِضَة وَالشِّيعَة، وَيَخْتَرِعُونَهُ مِنْ قَوْلهمْ: إِنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ
اللَّه تَعَالَى عَنْهُ- أَوْصَى إِلَيْهِ النَّبِيّ r بِأُمُورٍ كَثِيرَة مِنْ أَسْرَار
الْعِلْم، وَقَوَاعِد الدِّين، وَكُنُوز الشَّرِيعَة، وَأَنَّهُ r خَصَّ أَهْل الْبَيْت بِمَا
لَمْ يُطْلِع عَلَيْهِ غَيْرهمْ، وَهَذِهِ دَعَاوَى بَاطِلَة، وَاخْتِرَاعَات فَاسِدَة،
لا أَصْل لَهَا، وَيَكْفِي فِي إِبْطَالهَا قَوْل عَلِيّ t هَذَا » ([23]).
4- وفي لفظ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ
إِلا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ فَقَالَ: فِيهَا الْجِرَاحَاتُ
وَأَسْنَانُ الإِبِلِ، وَالْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى كَذَا،
...الحديث([24]).
5- وفي آخر: عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ
عَائِرٍ إِلَى كَذَا([25]).
6-
وفي آخر عنه: قال: خَطَبَنَا
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ
صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلا
كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ
الإِبِلِ، وَإِذَا فِيهَا الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا([26]).
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: « قَوْله:
(كِتَاب) أَيْ: مَكْتُوب أَخَذْتُمُوهُ عَنْ رَسُول اللَّه r مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَيَدُلّ
عَلَى ذَلِكَ رِوَايَة الْمُصَنِّف فِي الْجِهَاد: " هَلْ عِنْدكُمْ شَيْء مِنْ
الْوَحْي إِلا مَا فِي كِتَاب اللَّه " وَلَهُ فِي الدِّيَات " هَلْ عِنْدكُمْ
شَيْء مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآن " ... وَإِنَّمَا سَأَلَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ
عَنْ ذَلِكَ: لأَنَّ جَمَاعَة مِنْ الشِّيعَة كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِنْد أَهْل
الْبَيْت -لا سِيَّمَا عَلِيًّا- أَشْيَاء مِنْ الْوَحْي خَصَّهُمْ النَّبِيّ r بِهَا لَمْ يُطْلِع غَيْرهمْ
عَلَيْهَا.
وَقَدْ سَأَلَ عَلِيًّا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة
أَيْضًا قَيْس بْن عُبَاد -وَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف الْمُوَحَّدَة-
وَالأَشْتَر النَّخَعِيُّ وَحَدِيثهمَا فِي مُسْنَد النَّسَائِيِّ.
قَوْله: ( قَالَ: لا): زَادَ الْمُصَنِّف
فِي الْجِهَاد " لا، وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّة، وَبَرَأَ النَّسَمَة
" .
قَوْله : (إِلا كِتَابُ اللَّه): هُوَ بِالرَّفْعِ،
وَقَالَ ابْن الْمُنِير: فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْده أَشْيَاء مَكْتُوبَة
مِنْ الْفِقْه الْمُسْتَنْبَط مِنْ كِتَاب اللَّه، وَهِيَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ: أَوْ
فَهْم أُعْطِيَهُ رَجُل " لأَنَّهُ ذُكِرَ بِالرَّفْعِ، فَلَوْ كَانَ الاسْتِثْنَاء
مِنْ غَيْر الْجِنْس لَكَانَ مَنْصُوبًا. كَذَا قَالَ، وَالظَّاهِر أَنَّ الاسْتِثْنَاء
فِيهِ مُنْقَطِع، وَالْمُرَاد بِذِكْرِ الْفَهْم إِثْبَات إِمْكَان الزِّيَادَة عَلَى
مَا فِي الْكِتَاب.
وَقَدْ رَوَاهُ الْمُصَنِّف فِي الدِّيَات
بِلَفْظِ: " مَا عِنْدنَا إِلا مَا فِي الْقُرْآن، إِلا فَهْمًا يُعْطَى رَجُل
مِنْ الْكِتَاب " فَالاسْتِثْنَاء الأَوَّل مُفَرَّغ، وَالثَّانِي مُنْقَطِع،
مَعْنَاهُ لَكِنْ إِنْ أَعْطَى اللَّه رَجُلا فَهْمًا فِي كِتَابه فَهُوَ يَقْدِر عَلَى
الاسْتِنْبَاط فَتَحْصُل عِنْده الزِّيَادَة بِذَلِكَ الاعْتِبَار. وَقَدْ رَوَى أَحْمَد
بِإِسْنَادٍ حَسَن مِنْ طَرِيق طَارِق بْن شِهَاب قَالَ: شَهِدْت عَلِيًّا عَلَى الْمِنْبَر
وَهُوَ يَقُول: " وَاَللَّه مَا عِنْدنَا كِتَاب نَقْرَأهُ عَلَيْكُمْ إِلا كِتَاب
اللَّه وَهَذِهِ الصَّحِيفَة " وَهُوَ يُؤَيِّد مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
بِالْفَهْمِ شَيْئًا مَكْتُوبًا » ([27]).
([2]) قَوْله: (أَنْتَ
وَاَللَّه بَعْد ثَلاث عَبْد الْعَصَا) كِنَايَة عَمَّنْ يَصِير تَابِعًا لِغَيْرِهِ،
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَمُوت بَعْد ثَلاث، وَتَصِير أَنْتَ مَأْمُورًا عَلَيْك. وَهَذَا
مِنْ قُوَّة فِرَاسَة الْعَبَّاس t، وذَكَر ابْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْم
قُبِضَ النَّبِيّ r. (انظر: فتح
الباري للحافظ ابن حجر، ج3/ ص3073).
([6]) قال النووي: « قَالَ الْقَاضِي عِيَاض:
أَوْ قَوْله: (أَهَجَرَ رَسُول اللَّه r)
هَكَذَا هُوَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره (أَهَجَرَ) عَلَى الاسْتِفْهَام، وَهُوَ
أَصَحّ مِنْ رِوَايَة: (هَجَرَ، وَيَهْجُر)؛ لأَنَّ هَذَا كُلّه لا يَصِحّ مِنْهُ r؛
لأَنَّ مَعْنَى (هَجَرَ): هَذَى، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا مِنْ قَائِله اسْتِفْهَامًا؛
للإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لا تَكْتُبُوا، أَيْ لا تَتْرُكُوا أَمْر رَسُول
اللَّه r
وَتَجْعَلُوهُ كَأَمْرِ مَنْ هَجَرَ فِي كَلامه؛ لأَنَّهُ r لا
يَهْجُر.
وَإِنْ صَحَّتْ
الرِّوَايَات الأُخْرَى، كَانَتْ خَطَأ مِنْ قَائِلهَا قَالَهَا بِغَيْرِ
تَحْقِيق، بَلْ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْحَيْرَة وَالدَّهْشَة؛ لِعَظِيمِ مَا
شَاهَدَهُ مِنْ النَّبِيّ r مِنْ
هَذِهِ الْحَالَة الدَّالَّة عَلَى وَفَاته وَعَظِيم الْمُصَاب بِهِ، وَخَوْف
الْفِتَن وَالضَّلال بَعْده، وَأَجْرَى الْهَجْر مَجْرَى شِدَّة الْوَجَع. وَقَوْل
عُمَر t:
حَسْبنَا كِتَاب اللَّه رَدٌّ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ لا عَلَى أَمْر النَّبِيّ r،
وَاللَّهُ أَعْلَم » قاله النووي في المنهاج بشرح صحيح مسلم،
ص1040).
No comments:
Post a Comment