المملكة العربيّة السّعوديّة
وزارة التّعليم العالي
الجامعة الإسلاميّة
(032)
كلّـيّة الدعوة وأصول الدين
قسم العقيدة
|
المصطلحات المتعلقة بالإيمان، وأصله وكماله، ومراتب
المؤمنين
عند المحققين من علماء أهل السنة
جمع الطالب
أبو بكر حمزة زكريا
إشراف
الشيخ الأستاذ الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي –حفظه الله
ورعاه-
العام الجامعي: 1433-1434هـ.
منهجية مرحلة الدكتوراه
P
والحمد لله، والصلاة والسلام على عبد الله
ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فاستجابةً لأمر شيخنا الشيخ الأستاذ
الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي –حفظه الله تعالى- في أن نقوم بجمع المصطلحات
المتعلقة بالإيمان وأصله وكماله، ومراتب المؤمنين، بضميمة شرحها وبيانها عند
العلماء المحققين، وقد جعلته على النحو التالي:
خطة
البحث: يحتوي البحث على مقدمة سابقة، وتمهيد، وثلاثة مباحث، والخاتمة،
كالتالي:
التمهيد: في التعريف بالإيمان وذكر حقيقته.
المبحث
الأول: المصطلحات المتعلقة بالإيمان وأصله وفرعه، وكماله الواجب والمستحب،
عند المحققين من علماء أهل السنة، وفيه مسألتان.
المبحث
الثاني: المصطلحات المتعلقة بأجزاء الإيمان وأركانه وشُعَبه، ومنزلة هذه
الأجزاء والشعب مِن الإيمان عند المحققين من علماء أهل السنة، وفيه مسألتان.
المبحث
الثالث: المصطلحات المتعلقة بمراتب المؤمنين عند المحققين من علماء أهل
السنة.
الخاتمة.
التمهيد: في التعريف
بالإيمان وذكر حقيقته:
وأمهِّد بالتعريف للإيمان وأنه كما
قاله وكيع: أهل السنة يقولون: الإيمان قولٌ وعملٌ، والمرجئة يقولون: إنَّ الإيمان
قولٌ بلا عمل، والجهمية يقولون: إنَّ الإيمان المعرفة([1]).
وقال
القاضي أبو يعلى الفراء البغدادي وهو يتكلم عن حقيقة الإيمان: (وأما حده في الشرع:
فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، فالباطنة: أعمال القلب وهو تصديق القلب،
والظاهرة: هي أفعال البدن الواجبات والمندوبات، وقد نصّ أحمد على هذا في مواضع:
فقال في رواية أبي الحارث: السنة أن تقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وكذلك
قال في رواية محمد بن موسى: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ وإذا عملت الحسن زاد،
وإذا ضيَّعتَ نقص، والإيمان لا يكون إلا بعمل)([2]).
المبحث الأول: المصطلحات المتعلقة بالإيمان وأصله
وفرعه وكماله الواجب والمستحب عند المحققين من أهل السنة، وفيه مسألتان:
المسألة
الأولى: مصطلح أصل الإيمان وفرع الإيمان عند المحققين من أهل السنة.
المسألة
الثانية: مصطلح كمال الإيمان الواجب وكمال الإيمان المستحب عند المحققين من أهل
السنة.
المسألة الأولى: مصطلح أصل الإيمان وفرع الإيمان عند
المحققين من أهل السنة:
جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ
ﭼ إبراهيم:
٢٤ - ٢٥
وقد
بيَّن جمهور السلف، وجمعٌ من المفسِّرين([3])
أنّ هذه الآية مثلٌ ضرَبَه الله تعالى للإيمان بأصله وفرعه وثمرته، قال الشيخ عبد
الرحمن بن ناصر السعدي: (ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭼ وهي شهادة أن لا إله إلا الله وفروعها،
ﭽ ﯺ ﯻ ﭼ وهي النخلة، ﭽ ﯼ ﯽ ﭼ في الأرض، ﭽ ﯾ ﭼ منتشر، ﭽ ﯿ ﰀ ﭼ وهي كثيرة النفع دائمًا، ﭽ ﭑ ﭒ ﭼ أي ثمرتها ﭽ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭼ فكذلك شجرة الإيمان؛ أصلها ثابتٌ في قلب
المؤمن؛ علمًا واعتقادًا، وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح والأخلاق المرضية
والآداب الحسنة، في السماء دائمًا؛ يصعد إلى الله منه من الأعمال والأقوال التي
تخرجها شجرة الإيمان، ما ينتفع به المؤمن وينفع غيرَه ...) ([4]).
وقال عدي بن عدي: كتب إليَّ عمر بن عبد
العزيز: (أما بعد: فإنَّ الإيمان فرائض وشرائع، وحدود وسنن؛ فمَن استكملها استكمل
الإيمان، ومَن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإنْ أعِش فسأبيِّنها لكم حتى
تعملوا بها...)([5]).
قال
الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (ت:224هـ): (... فهكذا الإيمان هو درجات ومنازل،
وإنْ كان سمى أهله اسمًا واحدًا، وإنما هو عمل من أعمال تعبد الله به عباده، وفرضه
على جوارحهم، وجعل أصله في معرفة القلب، ثم جعل المنطق شاهدًا عليه، ثم
الأعمال مصدِّقة له، وإنما أعطى الله كلَّ جارحة عملا لم يُعطه الأخرى؛ فعملُ
القلب: الاعتقاد، وعمل اللسان: القول، وعمل اليد: التناول، وعمل الرجل: المشي،
وكلها يجمعها اسم العمل ..)([6]).
وقال
بعدما ذكر طائفة من أحاديث شعب الإيمان وأجزائه: (فكل هذا من فروع الإيمان)([7]).
وبيّن
الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام أنّ الإيمان له زيادة ونقصان من جهة نزول الشرائع
بداية ونهاية بعدما ذكر أحاديث دعائم الإيمان وأصوله، وأحاديث شعبه، فقال: (وهي
بحمد الله ورحمته بعيدة على التناقض، وإنما وجوهها ما أعلمتك، مِن نزول الفرائض
بالإيمان متفرقًا، فكلما نزلت واحدةٌ ألحقَ رسولُ الله r
عددَها بالإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أُخرى زادها في العدد، حتى جاوز ذلك
السبعين كلمة، ... وإنْ كان زائدًا في العدد فليس هو بخلاف ما قبله؛ وإنما تلك دعائم
وأصول، وهذه فروعها زائدات في شُعَب الإيمان من غير تلك الدعائم)([8]).
وقال
البيهقي؛ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين (ت:458هـ) في مطلع كتابه في شُعب الإيمان:
«أما بعد! فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه, بفضله ولطفه وفقني لتصنيف
كتب مشتملة على أخبار مستعملة فِي أصول الدين وفروعه, والحمد لله على ذلك
كثيرا. ثُمَّ إني أحببت تصنيف كتاب جامع لأصل الإيمان وفروعه, وما جاء من
الأخبار فِي بيانه وحسن القيام به»([9]).
ونقل
البيهقي عن الحليمي قوله: «والإيمان بالله ورسوله أصل، وهو
الَّذِي ينقل من الكفر، والإيمان لله ولرسوله r فرع، وهو الذي يكمل بكماله الإيمان،
وينقص بنقصانه الإيمان. ومعنى هذا أن أصل الإيمان إذا حصل ثم تبعته طاعة زائدة ،
زاد الإيمان المتقدم بها، لأنه إيمان انضم إليه إيمان كان يقتضيه، ثم إذا تبعت تلك
الطاعة طاعة أخرى، ازداد الأصل المتقدم، والطاعة التي تليه بها، وعلى هذا إلى أن
تكمل شعب الإيمان. قال: ونقصان الإيمان هو انفراد أصله عن بعض فروعه، أو انفراد
أصله وبعض فروعه عما بقي منها مما اشتمل عليه الخطاب والتكليف، لأن النقصان خلف
الزيادة ، فإذا قيل لمن آمن وصلى: زاد إيمانه، وجب أن يقال لمن آمن ووجبت عليه
الصلاة فلم يصل، إنه ناقص الإيمان، وأنه صار بتركها مع القدرة عليها فاسقا عاصيا،
وعلى هذا سائر الأركان. فأما ما يتطوع به الإنسان مما ليس بواجب عليه بمعنى تصديق
العقد والقول بالفعل موجود فيه فيزداد به الإيمان، وتركه بالإضافة إلى من لم يتركه
يجوز أن يسمى نقصانا، لكن لا يوجب لتاركه عصيانا، هذا معنى قوله، قال: وإذا أوجبنا
أن تكون الطاعات كلها إيمانا ، لم نوجب أن تكون المعاصي الواقعة من المؤمنين كفرا،
وذلك أن الكفر بالله وبرسوله مقابل للإيمان به ...»([10]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): «ثم هو –يعني: الإيمان- في الكتاب بمعنيين: أصل،
وفرع واجب، فالأصل الذي في القلب وراء العمل؛ فلهذا يفرق بينهما بقوله: ﭽ ﭓ ﭔ ﭕ ﭼ البقرة: ٢٥ ،
والذي يجمعهما كما في قوله: ﭽ ﭧ ﭨ ﭼ الأنفال:
٢ ،
وﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﭼ التوبة: ٤٤ .
وحديث الحياء، ووفد عبد القيس. وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص
بفواته نقصًا يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس
فيه ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرها من الأعيان،
والأعمال والصفات، فمن سواء أجزائه ما إذا ذهب نقصٌ عن الأكمل، ومنه: ما نقص عن
الكمال؛ وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، ومنه: ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد
والقول، الذي يزعم المرجئة والجهمية أنه مسمى فقط. وبهذا تزول شبهات الفرَق، وأصلُه
القلب، وكماله العمل الظاهر، بخلاف الإسلام؛ فإن أصله الظاهر، وكماله القلب»([11]).
وصرح شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع بأن الإيمان هو الأصل،
والأعمال الظاهرة هي الفروع؛ وهي كمال الإيمان، وأن أصوله تمد فروعه وتثبتها، وأن
فروعه تكمل أصوله فقال -رحمه الله- : «والدين القائم بالقلب من الإيمان علمًا وحالا هو الأصل، والأعمال
الظاهرة هي الفروع، وهي كمال الإيمان؛ فالدين أول ما يبنى من أصوله ويكمل بفروعه، كما أنزل اللّه بمكة
أصوله من التوحيد والأمثالِ التي هي المقاييس العقلية، والقصص، والوعد والوعيد، ثم
أنزل بالمدينة -لما صار له قوة- فروعَه الظاهرة من الجمعة والجماعة، والأذان
والإقامة، والجهاد، والصيام، وتحريم الخمر والزنا، والميسر وغير ذلك من واجباته
ومحرماته. فأصوله تمد فروعه وتثبتها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها، فإذا وقع فيه
نقص ظاهر فإنما يقع ابتداء من جهة فروعه؛ ولهذا قال r: (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر
ما تفقدون من دينكم الصلاة »([12]).
وقال
البلقيني؛ سراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان (ت:805هـ) بعدما ذكر طرق حديث جبريل
المشهور الذي فيه الإسلام وأركانه والإيمان وأركانه والإحسان وركناه، وبعدما فصَّل
في شُعب الإيمان: (وفي هذا إعلام بأنّ هذه الأمور أعلام الدين ومعالمه، ومنها
تتفرع فروعه، فالإيمان الكامل هو الدين، وكذلك الإسلام الكامل، فالمراد بشُعب
الإيمان الإيمان الكامل. ونفي الإيمان عن عادم بعضها بحيث لا يصير كافرًا، فدل
على وجوب ذلك المعدوم، وأما مَن لا يأتِ ببعض المستحبات فإنه لا ينفى عنه الإيمان
بسبب عدم ذلك المستحب، ولكن يكون الآتي به قد فضّل في إيمانه: فإثبات الكمال فيه
واجب للجميع ونفيه يكون بترك الواجب، ولا ينفى الإيمان لتركه المستحب؛
لانتشار المستحب وكثرته، بخلاف بعض العبادات؛ فإنه قد تنفى لتركه المستحب المؤكد
نحو قوله r:
"لا صلاة لفذٍّ خلف الصف" عند مَن يعتقد صحة صلاته، وأنّ ذلك مستحب
مؤكد...)([13]).
وكل هذه النقولات من العلماء تُثبت أنَّ
للإيما أصلا؛ لا يصح بدونه، وأنَّ له فرعًا واجبًا ينتقص الإيمان بعدم، وآخر
مستحبًّا، فاعرف ذلك! والأصل في المسألة ودليلها هو ما صدرّت به هذه المسألة من
آية سورة إبراهيم.
المسألة الثانية: مصطلح كمال الإيمان الواجب وكمال
الإيمان المستحب عند المحققين من أهل السنة:
تقدم قريبًا في كلام البلقيني وابن تيمية
وغيرهما التنصيص على مصطلح "كمال الإيمان الواجب، والمستحب" وبيان
معناهما، وأزيد هنا فأنقل نقولات عن علماء آخرين فأقول:
جاء
في صحيح الإمام مسلم باب بعنوان: (باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، ونفيه عن
المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله)([14]).
وقال
المروزي؛ الإمام محمد بن نصر (294هـ: (ومما يدل على تأويل هذه الأخبار التي فيها
فيها نفي الإيمان عن من ارتكب المعاصي المذكورة فيها إليه ما ذهبنا من أن المراد
بها: نفي استكمال لا نفي الإيمان كله بأسره؛ حتى لا يبقى منه شيء ما)([15]).
وقال
بعدما ذكر 75 شعبة للإيمان: (ويدلّ عليه أنَّ مَن كمُلت فيه هذه الأفعال مُدح بأنه
كامل الإيمان، ولا يجوز أن يدخل في كمال الإيمان ما ليس منه؛ لأنَّ الشيء لا يكمل
بما لا يدخل فيه، فلو كان الإيمان هو التصديق باللسان أو القلب فقط، أو التصديق مع
المعرفة: لوجب فيمن فعل ذلك فقط، أو أخل بالواجبات وارتكب المنهيات أنْ يُمدح بأنه
كامل الإيمان، وامتناع ذلك يبيّن أنَّ الإيمان عبارة عن جميع ذلك. وهذا دليل
معتمد)([16]).
وقال:
(فإنْ قيل: يلزمكم في الطاعة التي تركها صغيرة أن تكون إيمانًا؛ لأنه مع
فقدها يوصف بأنه كامل الإيمان، ويمدح عليه؟ قيل: لا نسلم لك هذا، بل هو
ناقص الإيمان، وأصل هذا أنَّ الصغائر يستحق بها الذم على أصلنا، كما أنَّ النوافل
يقابلها الثواب كالواجبات)([17]).
ولقد
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: 224هـ) قبله بعدما ذكر نصوص التفاضل في
الإيمان بين المؤمنين: (في أشياء من هذا النحو كثيرة يطول ذكرها تُبيّن لك التفاضل
في الإيمان بالقلوب والأعمال، وكلها يشد أو أكثرها أنَّ أعمال البر من الإيمان ...
ومما يصدق تفاضله بالأعمال... ومما يبين لك تفاضله في القلب)([18]).
وقال
بعدما ذكر آية كمال الدين وتمام النعمة: (فلو كان الإيمان كاملا بالإقرار، ورسول
الله r
بمكة في أول النبوة كما يقول هؤلاء: ما كان للكمال معنى، وكيف يكمل شيئًا قد
استوعبه وأتى على آخره؟!)([19]).
وبين
شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ نفي الإيمان المطلق لا يستلزم النفاق فقال بعد ذكر آية
نفي الإيمان عن الأعراب: (ونفي الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين، ﭽ ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭼ الأنفال:
١ ثم قال: ﭽ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﭼ الأنفال:
٢ – ٤ ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك يكون
منافقًا قد أتى بالإيمان الواجب، فنفى عنه كما ينفى سائر السماء عمن ترك بعض ما
يجب فيها، فكذلك الأعراب لم يأتوا بالإيمان الواجب؛ فنفي عنهم لذلك وإنْ
كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يُثابون عليه، وهذا حال أكثر الداخلين في
الإسلام ابتداء، بل حال أكثر من لم يعرف حقائق الإيمان؛ ... –إلى أن قال تعليقًا
على آية حصر الإيمان التي الحجرات على عدم الارتياب في الإيمان بالله ورسوله-:
وليس هو منافقًا في الباطن مضمرًا للكفر، فلا هو من المؤمنين حقا، ولا هو من
المنافقين، ولا هو أيضًا من أصحاب الكبائر، بل يأتي بالطاعات الظاهرة ولا يأتي
بحقائق الإيمان التي يكون بها من المؤمنين حقا، فهذا معه إيمان وليس هو من
المؤمنين حقا. ويثاب على ما فعل من الطاعات)([20]).
وقال
البلقيني؛ سراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان (ت:805هـ) –وهو يُفصِّل في شُعب
الإيمان، في شرح حديثه: (فإذا أتى بكل الأعمال فهو المؤمن الكامل والمسلم الكامل)([21]).
وقال
ابن تيمية أيضًا تعليقًا على نصوصٍ: (وبهذا يتبين
أنَّ الشارع ينفي اسم الإيمان عن الشخص لانتفاء كماله الواجب وإنْ كان معه بعض أجزائه ...)([22]).
هذه النقولات فيها بيان المراد بكمال
الإيمان الواجب منه، والمستحب.
المبحث الثاني: المصطلحات المتعلقة بأجزاء الإيمان
وأركانه وشُعَبه، ومنزلة هذه الأجزاء والشعب مِن الإيمان عند المحققين من أهل السنة،
وفيه مسألتان:
المسألة
الأولى: المصطلحات المتعلقة بأجزاء الإيمان وأركانه وشُعَبه عند المحققين
من أهل السنة.
المسألة
الثانية: المصطلحات المتعلقة بمنزلة أجزاء الإيمان وشعبها وأركانها مِن
الإيمان، عند المحققين من أهل السنة.
المسألة الأولى: المصطلحات المتعلقة
بأجزاء الإيمان وأركانه وشُعَبه عند المحققين من أهل السنة:
قد تقدمت مصطلحات الأجزاء والشعب والأركان
والفروع في النقولات السابقة، ومنها أيضًا: قول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام:
(فإن قال قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟ قيل له: لم تُسمّ لنا
مجموعة فنسميها، غير أنّ العلم يُحيط أنها من طاعة الله وتقواه، وإنْ لم تُذكر لنا
في حديث واحدٍ، ولو تفقدت الآثار لوجدت متفرقة فيها، ألا تسمع قوله في إماطة الأذى
وقد جعله جزءًا من الإيمان ... فكل هذا من فروع الإيمان)([23]).
وقال
ابن تيمية: (.. وحينئذ فقد يجتمع في الإنسان إيمان
ونفاق، وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر ...)([24]).
وقال
وهو يتكلم عن أن شعب الإيمان ليست متلازمة في الانتفاء: (..
أما الأول: فإنَّ الحقيقة الجامعة لأمور –سواء كانت في الأعيان أو الأعراض- إذا
زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور
المجتمعة زوال سائرها، ... لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها، وما
مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك)([25]).
وبيَّن
أنّ الإيمان له شعب ويتبعض، وأنه (من المعلوم أنه إذا زال الإماطة ونحوها لم يزل
اسم الإيمان)([26]).
المسألة الثانية: المصطلحات
المتعلقة بمنزلة أجزاء الإيمان وشعبها وأركانها مِن الإيمان، عند المحققين من أهل
السنة:
هذه الشعب والأجزاء ليست من الدين على
منزلة واحدة، فمنها ما يزول الدين بزواله ومنها ما ينقص بتركها الإيمان ويبقى
أصله، يقرر هذه المعاني شيخ الإسلام فيقول:
ومن
عناوين كتاب الإيمان من صحيح الإمام مسلم: (باب بيان الإيمان الذي يُدخَل به
الجنة، وأنَّ مَن تمسك بما أُمر به دخل الجنة)([27]).
وفيه
أيضًا: (باب الدليل على أنَّ مَن رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد r
رسولا فهو المؤمن وإن ارتكب المعاصي الكبائر)([28]).
وقال
الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (ت:224هـ)في باب الخروج من الإيمان بالمعاصي،
بعدما ذكر الآثار التي جاءت بالتغليظ في ذلك، وبيَّن أصناف الناس الأربعة في
تأويلها: (وإنَّ الذي عندنا في هذا الباب كله: أنَّ المعاصي والذنوب لا تزيل
إيمانًا، ولا توجب كُفرًا، ولكن إنما تنفي من الإيمان حقيقتَه وإخلاصَه الذي نعَت
الله به أهلَه، واشترطه عليهم في مواضع من كتابه –فذكر آيات في ذلك وعلق عليها
ثم قال-: فنفَت عنهم حينئذ حقيقتَه ولم يزل عنهم اسمه. فإنْ قال قائل: كيف
يجوز أنْ يُقال: ليس بمؤمن، واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام
العرب المستفيض عندنا غير مستنكر في إزالة العمل عن عامله؛ إذا كان عمله على غير
حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمُحكِم لعمله: ما صنعتَ شيئًا
ولا عملتَ عملا، وإنما وقع معناهم هاهنا على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسِها؛
فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، ... فكذلك هذه الذنوب التي ينفى بها
الإيمان، إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي مِن صفاته، فأما الأسماء فعلى ما
كانت قبل ذلك، ولا يقال لهم إلا: مؤمنون، وبه الحكم عليهم)([29]).
ثم ذكر الشواهد لقوله الراجح من الكتاب والسنة، ومنها: حديث مسيء صلاته.
وتكلم
في النوع الثاني إلى أن قال: (وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما
بالمعاصي: فإنَّ معناها عندنا ليست تُثبت على أهلها كفرًا ولا شركًا يُزيلان
الإيمان عن صاحبه، إنما وجوهها: أنها مِن الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون،
وقد وجدنا لهذين النوعين مِن الدلائل في الكتاب والسنة نحوًا مما وجدنا في النوعين
الأولين. –فذكر نصوصًا ثم قال-: فقد أخبَرَك أنَّ في الذنوب أنواعًا كثيرة تُسمى
بهذا الاسم، وهي غير الإشراك التي يتخذ لها مع الله إله غيره، تعالى الله عن ذلك
علوًّا كبيرًا، فليس لهذه الأبواب عندنا وجوه إلا أنها أخلاق المشركين، وتسميتهم
وسننهم وألفاظهم وأحكامهم، ونحو ذلك مِن أمورهم)([30]).
المبحث
الثالث: المصطلحات المتعلقة بمراتب المؤمنين عند المحققين مِن
أهل السنة:
وهي:
السابق، والمقتصد، والظالم لنفسه، وهؤلاء كلهم عياد الله الذين
اصطفاهم الله تعالى بوراثة كتابه، قال تعالى: ﭽ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭼ فاطر: ٣٢
قال ابن تيمية: «والناس في "الإيمان
والإسلام" على ثلاث مراتب: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات.
فالمسلم ظاهرا وباطنا إذا كان ظالما لنفسه فلا بد أن يكون معه إيمان; ولكن لم يأت
بالواجب، ولا ينعكس. وكذلك في الآخر»([31]).
وقال الشيخ محمد
الأمين الشنقيطي في تفسيره لآية سورة النور: «وبيَّن أنهم
ثلاثة أقسام:
الأول: الظالم لنفسه، وهو الذي يطيع الله،
ولكنه يعصيه أيضًا، فهو الذي قال الله فيه: ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
ﭼ التوبة:
١٠٢ .
والثاني: المقتصد
وهو الذي يطيع الله، ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات.
والثالث: السابق
بالخيرات: وهو الذي يأتي بالواجبات، ويجتنب المحرمات، ويتقرب إلى الله بالطاعات
والقربات التي هي غير واجبة. وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه والمقتصد
والسابق([32]).
ثم إنه تعالى بيَّن أنَّ إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم، ثم وعد الجميع
بجنات عدن، وهو لا يخلف الميعاد. ... والواو يدخلونها شاملة للظالم، والمقتصد،
والسابق على التحقيق. ولذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه الواو أنْ تكتب بماء
العينين. فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة، وأولهم الظالم لنفسه يدل
على أنَّ هذه الآية مِن أرجى آيات القرآن، ولَم يبقَ من المسلمين أحد خارج عن
الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شاملٌ لجميع المسلمين؛ ولذا قال
بعدها متصلا بها: ﭽ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ
ﭼ إلى قوله: ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
ﭼ فاطر:
٣6-37. واختلف أهل العلم في سبب تقديم
الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق، فقال بعضهم: قدَّم الظالم لئلا يقنط،
وأخَّر السابق بالخيرات؛ لئلا يعجب بعمله فيحبط. وقال بعضهم: قدَّم الظالم لنفسه؛
لأنَّ أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ الذين لم تقع منهم معصية أقل من
غيرهم، كما قال تعالى: ﭽ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
ﭼ ص: ٢٤ »([33]).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي:
« ﭽ ﭫ ﭬ ﭭ ﭼ بالمعاصي، التي هي دون الكفر. ﭽ ﭮ ﭯ ﭼ مقتصر على ما يجب عليه، تارك للمحرم. ﭽ ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ أي: سارع فيها واجتهد، فسبق غيره، وهو
المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه. فكلهم اصطفاه اللّه
تعالى، لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من
وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه من أصل الإيمان، وعلوم الإيمان، وأعمال
الإيمان، من وراثة الكتاب، لأن المراد بوراثة الكتاب، وراثة علمه وعمله، ودراسة
ألفاظه، واستخراج معانيه»([34]).
وفي
تفسير الآية قال الشيخ عبد المحسن العباد «... وأنَّ كل
مَن هداه الله للإسلام فمآله إلى الجنة، ولو ناله ما ناله من العذاب بسبب ظلمه لنفسه»([35]).
ثم نقل كلام شيخه الشيخ الأمين الشنقيطي المتقدم في تفسير آية فاطر.
)([36]).
الخاتمة:
وبعد،
فالذي في تقدم في المباحث الثلاثة بيان لطائفة من المصطلحات في باب الإيمان، ومِن
ثَم شرح العلماء المحققين لها، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
No comments:
Post a Comment