2016/04/08

فوائد المحن والرزايا

قال الشيخ تاج الدين عبد الوهاب السبكي (ت: 771هـ) في آخر كتابه معيد النعم ومبيد النقم (ص156 وما بعده): ولسلطان العلماء شيخ الإِسلام عزِّ الدين محمد بن عبد السلام رضي اللَّه تعالى عنه كلام على فوائد المحن والرزايا، أنا أحكيه لك بجملته. قال رضي اللَّه عنه:

للمصائب والبلايا، والمحن والرزايا فوائد، تختلف باختلاف رُتب الناس.
إحداها: معرفة عزِّ الربوبية وقَهْرِها.
والثانية: معرفة ذِلَّة العبودية وكَسْرِها. وإليه الإِشارة بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اعترفوا بأنهم مِلكه وعبيده، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره. وقضاؤه وتقديره، لا مَفَرَّ لهم منه، ولا محيد لهم عنه.
والثالثة: الإخلاص للَّه تعالى؛ إذ لا مرجع في دفع الشدائد إلَّا إليه، ولا معتمد في كشفها إلَّا عليه، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.
الرابعة: الإِنابة إلى اللَّه، والإِقبال عليه، {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}.
الخامسة: الترصُّع والدعاء {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا}، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}، {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}.
السادسة: الحلم عمَّن صدرت عنه المصيبة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، (إن فيك خَصْلتين يحبهما اللَّه: الحلم والأناة) وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها. فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حِلْم.
السابعة: العفو عن جانيها {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو.
الثامنة: الصبر عليها. وهو موجب لمحبَّة اللَّه تعالى؛ وكثرة ثوابه {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، (وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر).
والتاسعة: الفرح بها، لأجل فوائدها، قال عليه إلصلاة والسلام: "والَّذي نفسي بيده إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء" وقال ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه حبَّذا المكروهان الموت والفقر. وإنَّما فرِحوا بها؛ إذ لا وقع لشدَّتها ومرارتها، بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها؛ كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها، مع تجرعه لمرارتها.
العاشرة: الشكر عليها؛ لما تضمَّنته من فوائدها؛ كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه، المانع من شهواته، لما يَتوقع في ذلك من البرء والشفاء.
الحادية عشرة: تمحيصها للذنوب والخطايا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، (ولا يصيب المؤمن وَصَب ولا نصب حتى الهم يُهمُّه والشوكةُ يُشاكها إلَّا كفَّر به من سيئاته).
الثانية عشرة: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم؛ فالناس معافًى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واشكروا اللَّه تعالى على العافية.
وإنَّما يرحم العشّاق من عشقا.
الثالثة عشرة: معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها؛ فإنَّ النعم لا تعرف أقدارها إلَّا بعد فقدها.
الرابعة عشرة: ما أَعدَّه اللَّه تعالى على هذه الفوائد: من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها.
الخامسة عشرة: ما في طِّيها من الفوائد الخفية؛ {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، ولمَّا أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في تلك البلية أن أخدمها هاجر، فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فكان من ذرّية إسماعيل سيِّد المرسلين وخاتم النبيّين، فأعظم بذلك من خير كان في طيِّ تلك البلية؛ وقد قيل:
كم نعمة مطوية ... لك بين أثناء المصائب
وقال آخر:
ربَّ مبغوض كريه ... فيه للَّه لطائف
السادسة عشرة: أنَّ المصائب والشدائد تمنع من الأشَر والبطر والفخر والخيلاء والتكبُّر والتجبُّر، فإنَّ نمرود لو كان فقيرًا سقيمًا فاقد السمع والبصر لما حاجَّ إبراهيم في ربه، لكن حمله بطر الملك على ذلك، وقد علَّل اللَّه سبحانه وتعالى محاجَّته بإيتائه الملك فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال أنا ربّكم الأعلى {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}،  {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}، {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًالِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}، {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}، والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء.
ولهذه الفوائد الجليلة كان أشدَّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون الأمثل فالأمثل؛ نسبوا إلى الجنون والسحر والكهانة، واستهزئ بهم، وسُخر منهم، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، وقيلَ لنا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}، {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، " {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}، الَّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وتغرَّبوا عن أوطانهم، وكثر عناؤهم واشتدَّ بلاؤهم، وتكاثر أعداؤهم، فغلبوا في بعض المواطن، وقتل منهم بأحد وبئر معونة وغيرهما من قتل، وشجّ وجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكسرت رباعِيَته، وهشمت البيضة على رأسه، وقتل أعِزّاؤه، ومثَّل بهم، فشمِتَ أعداؤه، واغتمَّ أولياؤه، وابتُلوا يوم الخندق، وزلزلوا زلزالًا شديدًا، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا في خوفٍ دائم، وعُرْي لازم، وفقر مُدْقِع؛ حتى شدّوا الحجارة على بطونهم، من الجوع. ولمِ يشبع سيِّد الأولين والآخرين من خبز بُرّ في يوم مرتين. وأوذي بأنواع الأذيّة حتى قَذفوا أحبّ أهله إليه، ثم ابتلي في آخر الأمر بمسيلمة وطليحة والعنْسيّ. ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة ما لقوه، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير. ولم تزل الأنبياء والصالحون يُتعهّدون بالبلاء الوقت بعد الوقت، يبتلي الرجل على قدر دينه: فإن كان صُلبًا في دينه شدَّد في بلائه. ولقد كان أحدهم يوضع الميشار على مَفْرِقه فلا يصدُّه ذلك عن دينه. وقال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمن مثل الزرع لا تزال الريح تميله"، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء وقال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرعها مرَّة وتعدلها مرَّة حتى تهيج" فحالُ الشدَّة والبلوى مقبلة بالعبد إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن اللَّه تعالى، {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}، فلأجل ذلك تقلَّلوا في المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمجالس والمساكن والمراكب وغير ذلك؛ ليكونوا على حالة توجب لهم الرجوع إلى اللَّه تعالى والإقبال عليه.
السابعة عشرة: الرضا الموجب لرضوان اللَّه تعالى؛ فإن المصائب تنزل بالبَرِّ والفاجر؛ فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة، ومن رضيها فله الرضا، والرضا أفضل من الجنَّة وما فيها؛ لقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، أي من جنات عدن ومساكنها الطيبة.
فهذه نبذة ممَّا حضرنا من فوائد البلوى. ونحن نسأل اللَّه تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة؛ فلسنا من رجال البلوى. وفّقنا اللَّه تعالى للعمل بما يحب ويرضى، وبرَّأنا من المحن والرزايا.
اللَّهمَّ صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله عودًا على بدء ومختتمًا على مفتتح وسلم تسليمًا دائمًا باقيًا إلى يوم الدين آمين وحسبنا اللَّه ونعمَ الوكيل ولا حولَ ولا قوة إلا باللَّه العليِّ العظيم وسبحان اللَّه وبحمده سبحان اللَّه العظيم.

No comments:

Post a Comment

TSAWATARWA DAGA SHAN TABAR SIGARI (التحذير من شرب الدخان)

TSAWATARWA DAGA SHAN TABAR SIGARI (التحذير من شرب الدخان) Na Shehun Malami Abdul’aziz dan Abdullahi bn Baaz Allah ya yi masa rahama...