إبراهيم إنياس (ت: 1395هـ) ومجانبته للوسطية في "الدواوين الست"
بسم الله، والحمد لله،
والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
اعلم
أنّ مدح رسول الله r منه ما هو ممدوحٌ مشروع، ومنه المحرم،
فـ«المحمود هو: أنْ يُوصَف بكُلِّ
كَمالٍ يليق بالإنسان...وكلُّ مَدحٍ هو كمالٌ في حق الإنسان فلِسَيِّد ولد آدم
-صلوات الله وسلامه عليه- منه القسط الأكبر، والحظُّ الأوفر، وكلُّ وَصْفٍ يُعتبر
نَقْصًا في الإنسان فهو أسْلَمُ الناس منه وأبعدُهم عنه،... فكلُّ
ثَنَاءٍ على سيِّد الأولين والآخرين r
مِن هذا القَبيل فهو حَقٌّ، مع الحذر من تجاوز الحد والخروج عن
الحق... والمدح المذموم: هو الذي يتجاوز فيه الْحَدّ، ويَقَع به الْمادح في
الْمحذور الذي لا يَرضَاه الله ولا رسولُه r،
وذلك أنْ يُوصَفَ r
بِما لا يجوز أَنْ يُوصَف به إلا الله تبارك وتعالى، أو أن يُصرف له r
ما لا يستحقه إلا الباري»([1]). وكذلك وصفه r
بباطل ليس من صفاته، كوصف الصوفية له بأنه حاضرٌ في كل مكان ناظرٌ لأيّ إنسان، كما
سيأتي من قول المؤلّف. ولمادح الرسول r
-شعرًا كان أو نثْرًا- الأسوَة الحسنة بحسّان وغيره مِن
الصحابة y الذين أقرّهم الرسول r على تقريض المدائح له، حتى إنه قد ذكر أنّ روح القدس معه ما نافح
عنه عليه الصلاة والسلام. كما يجب عليه الحذر مِن مثل قول الجَارِيَة رضي الله عنها: (وَفِينَا نَبِيٌّ
يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ). عاملا بِقَوله r في هذه المناسبة: "لا
تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ"([2])، وبقوله الآخر:"مَا يَعْلَمُ
مَا فِي غَدٍ إِلا اللَّهُ"([3]).
وأما المقصود بـ"الدواوين
السّتّ" الذي في موضوع المقالِ فعنوانٌ طبعَتْ عليه دار الفكر ببيروت
كتابًا متوسط الحجم([4])، لمؤلفه السنغالي
المسمى بالشيخ الحاج إبراهيم بن الحاج عبد الله الكولخي المغالي في الرسول([5])، والمُعجَب بنفسه ومصابٌ بما يسمى بـ(داء العظمة([6])) الذي أهلكه الله تعالى في رجب سنة:
1395هـ، بلندن، ودفن وراء مسجده حسب ما أمر به في وصيته([7])،
وقد بنَت أتباعه مؤخرًا مزارًا يُشَد إليه الرحال من قبل آلاف من المفتونين به في
أفريقية خاصة، ويرتكب عنده العديد من المخالفات والشركيات* ويحتوي الكتاب على ستة
دواوين([8])
وتقع في قريبٍ من ثلاثة آلاف بيتٍ (2972 بيتًا).* وموضوع الدواوين ومضمناتها هو:
مدح الرسول r
كما في عناوين خمسة منها، هذا هو "الدواوين" بالنسبة لعددها وموضوعاتها
وبالنسبة للمخالفات التي فيها، ولَمّا لم أقِف على مَن رَدّ على إطراءاته ونبّه
على المخالفات التي فيها: نشطت فقرأتُها (الدواوين)، وحصَرتُ الأبيات التي فيها
الإطراء الشديد، وبقية الأخطاء العقدية الفاضحة، للتعليق عليها. والمهم هنا أنّ في
هذه الدواوين من مجانبة الوسطية والاعتدال في شخص الناظم نفسه، وممارسة إطراء
الرسول r
ما الله به عليم، فصار من أهم ما ينقص "الدواوين" هو الأمر الهام الذي
لا بد منه في مؤلفات المدح؛ ألا وهو التوسط والاعتدال في ذلك، قال صاحب تخميس
العشرينية فيما وافق فيها عين الحقيقة والصواب:
ألا فأعِد ذِكرَ النبِيّ وجدّدِ*** وفي مَدحه
فاعدل وقاربْ وسدّدِ.
ولا تغلُ في شيءٍ من القول واقصِدِ** زِنْ
القول إنْ حَاوَلْتَ مَدْحَ محمدِ.
ففي كُلّ قولٍ مستحيلٌ وجائزُ([9]).
ذلك أنّ الإطراء –إما مدح بالباطل والكذب،
وإما غلو في المدح([10])- منهي عنه؛ فقد قال
رسول r:
"لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَت النَّصَارَى ابْنَ
مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ
اللَّهِ وَرَسُولُهُ"([11]). والسؤال هنا: هل وجد هذا النهي النبوي أذنًا صاغية
من قِبَل هذا الصوفي خاصة؟
أيها القارئ الكريم! الجواب على السؤال المتقدم بالسلب، بل إنه وصل به
الأمر في هذه "الدواوين" إلى مقابلة النهي النبويّ (لا تطروني) بالمعارضة
والمناقضة، حيث قال:
لأنّ رسولَ الله مَدْحٌ
وروحُه** فقُل فيه ما قد شِئْتَ لا تَخْتَشِي الإطرا.
ومارَس الغلوَّ والإطراءَ، وزعم أنه –مع ما
سيأتي من غلوه فيها وأباطيله- أنَّه لم
يَكُ مغاليًا في رسول الله r (مُفرِطًا)، فقال: فليس
علَيَّ اللومُ في مَدح سيّدي *** فمَا
شئتُهُ مَدْحًا فلَم أكُ أُفْرِط([13])
وللتحقق من عدم صحة دعواه هذه (في زعمه أنه لم
يكُ يُفرِط في المدح) أُورِد بيتًا له أو أكثر من كل ديوان من الدواوين حسب ما
تيسر: لنقف على مدى مجاوزته حدود الشريعة في عبد الله ورسوله نبينا محمدٍ r،
ويتضح بذلك كذبه حيث يمدحه حتى بالباطل الذي ليس من بصفاته، بل الذي أقرر هنا أنّ هذا المؤلف فوق البوصيري في باب إطراء
النبي r([14])؛ ذلك أنه ليس هناك نوعٌ مِن الغلو في هذا الأمر إلا
وقد طرقَه في هذه الدواوين ومارسه؛ فهي مشحونة بالشرك بالله في أنواع التوحيد
الثلاثة.
مِن نماذج ما وقع
المؤلف في "الدواوين" من مجاوزة حدّ الشرع في مدح الرسول r،
وكذلك مدحه بالباطل، ما يأتي:
أولا: أبيات الكولخي
التي فيها دعاء النبي r ومناداته واستغاثته ولياذه به:
وقال محيلا حاجته وحاجة غيره إلى غير الله
تعالى، ورافعًا شكايته إلى رسول الله r:
ألا يا رسول الله وارفع شكايتِي** إليك، وحالي ما ترى العبدَ سوّدَا.
واستغاثه فيما لا يقدر عليه إلا الله فقال:
هو العبدُ حقًّا والأنام عَبيدُهُ** فكُنْ لِيَ يا مختارُ، كُنْ لِي لَدَى الْجَدَثْ.
وكُنْ لِمُحِبٍّ في الأمور بأسْرِها** أغِثْهُ
سريعًا يا كريمُ، أغِث أغِث.
وزعم أنه لا عُدّة في النائبات سوى رسول الله r
وتناسى ربه فقال:
ألا يا رسولَ الله
وجّهتُ وِجهتِي** إليك، فكُنْ لِيَ الدَّهرَ إنْ عارِضٌ عَرَضْ.
بل وزعم أنه r
أفضل مَن يدعى لدفع النوائب، كما أنه أفضل معطٍ ومواسٍ، فقال:
وأفَضلُ مَن يُدْعَى
لِدَفْعِ نوائِبٍ** وأفْضَلُ مَنْ يُسْدِي العطَا ويُواسِ .. ([19]).
وزَعَم أنَّه مُنقِذُه
مِن كُلّ البليات: محمدُ أُنْسِي وَهْوَ كنزِي وملجَئِي* وسِرّي ومِن كُلّ
البليات مُنْقِذِي([20]).
وقال في أنّه لا يَخشَى ولا يَرجُو غير رسول
الله r،
لا ربّه. كما أنّه في البيت الثالث بعد الشاهد زَعَمَ أنْه لم يَرفَع يومًا إلى
غير النبِيّ شَكوَى: عليه صلاة الله ثم سلامُه*** أَكُونُ سِواه لَن أُرَجّى
ولَنْ أخْشَى([21]).
وناداه في كل حالة ونسي ربه فقال: أُنادِي رسولَ الله في
كُلّ حالةٍ** إليه مصيرِي فهْوَ قَصدِي ومنهَجُ ([22]).
وزاد على مشركي قريش فقال ما هو شركٌ مع الله
في حالة الكرب، ونسي ربه في هذا البيت:
وقال ضارعًا في مناداة
النبِيّ r
ومناجاته لِيَرْحَمَه –على زعمه- ويَنْظُر لحالِه:
أُنادِي حبيبَ الله طه محمدًا*** أبا القاسِمِ الْهادِي الْمُقَفّى
مناجِيَا.
ثانيًا: ذكر أبياته
التي فيها وصف النبي r
بما ليس من صفاته، و بالأمور الباطلة:
فمن ذلك: الزعم بأن الدنيا والآخرة من جوده:
وفسر "الكونان"، وزاد في الغلو
فقال:
فَمِن جودِه الدنيا وأخرى، وعِلمُه** أمَدّ قِلامَ
اللوح بعضُ الذي وعَا.
فهنا يزعم أن حور
العين تزينت من حسنه، وأن الشمس والقمر وغيرهما تفرع نورها من نوره r. وقال أيضًا:
وقال: فَمِنْ جُودِه
الْكَونان والعالَمُ الذي**** تَقاصَر
حِسٌّ عنه وهْوَ كبيرُ([29])
وخص بعض ما في
"الكونين" وزعم أنها من جود النبي فقال عن الجنة:
ومن أبياته ما أخذ يُقرر فيها عقيدةً هي مِن
أخص معتقدات غُلاة الصوفية في رسول الله r،
وهي اعتقاد أنه الحاضر الناظر، أي: أنّه حاضرٌ لا يخْلُو مكان أو زمان إلا وهو
موجودٌ فيه([32])،
فيقول:
ومثله في هذا الْمقام
ما في ديوانه: (أوثق العرى في مدح سيّد الورى r):
ونادَاه r
وزَعَم أنّه حاضِرٌ سامعٌ، ثم طَلَبَ منه أنْ يُجِيرَه، فقال:
أيَا سيِّدِي خَيْرَ الْوَرى نبِيَّنَا** يقينًا أُناِدي حاضِرِي الدّهْرَ
سامِعِي.
فسبحان الله! ما تلك الشركيات، وما
هذه المبالغات، وما هي أفعال الله تعالى الخاصة به عند أمثال هذا المسكين الكولخي؟
ونحن -أهلَ السنة والجماعة- و«بعد معرفة ما جاء
به الرسول نعلم بالضرورة أنّه لم يشرع لأمته أنْ تَدْعُوَ أحَدًا من الأموات؛ لا الأنبياء
ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها،
كما أنّه لم يَشْرَع لأمته السجود لميت ولا لغير ميّتٍ، ونحو ذلك. بل نعلم أنّه نَهى
عن كلّ هذه الأمور، وأنّ ذلك مِن الشرك الذي حرّمه الله تعالى ورسولُه، لكن لغلبة الجهل،
وقلة العلم بآثار الرّسالة في كثيرٍ من المتأخرين: لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لَهم
ما جاء به الرسول r
مما يخالفه»([36]). فالمقصود من هذا كله ذكر حالة الرجل في دواوينه، وأنه
قد جاوز
كل الحدود بالنسبة لشخصه الطامعة للسيادة والعلو في الأرض، وبالنسبة للرسول
r،
وخالف
بذلك النصوص الناهية عن الغلو والإطراء الشهيرة. وإلى الله المشتكى وهو حسيبنا
وحسيبُه! وأقرر هنا بأنه: إنْ لَم يكُن في هذه الدواوين إطراء النبيّ r
الْمنهي عنه، والشرك بالله بأنواعه الثلاثة (في الألوهية وخصوصًا في الدعاء
والاستغاثة، وفي الربوبية وفي توحيد الأسماء والصفات)، فما قرأتُ شركًا في كتاب!
أما قائلُها فإلى ربه حسابه! وصلى الله وسلم على الناهي عن الإطراء
والغلو، الآمر بالوسطية في كل مجال؛ نبينا محمد وآله وصحبه!
([6]) وصفه بذلك شيخي الدكتور
محمد الثاني عمر موسى في مقال له بعنوان: آراء الشيخ إبراهيم إنياس في الميزان،
ص7، ضمن مجلة قراءات أفريقية، العدد: الخامس، جمادى الثاني، 1431هـ. ومما يدل على
ذلك: أنه يعطي نفسه التصريف في الكون، (كما في الرحلة الكناكرية،
ص110 بواسطة: آراء الشيخ إبراهيم إنياس السنغالي في الميزان، ص17):
حملتُ سرّ خاتم الولاية
|
جمعتُ بين الذوق والدراية
|
قد خصني بالعلم والتصريف
|
إنْ قلتُ: كن يكُنُ بلا تسويف
|
لكنني اتخذته وكيلا
|
تأدبًا، فاختارني خليلا
|
وفي زعمه بأن له التصريف في الكون وأنه
إذا قال كن يكون اعتداءٌ على خصائص الرب. وزعَم في موضع آخر أنّ النبِيّ r أذِن له أنْ
يُبيّن أنّ السعادة مناطةٌ بمجرد حبّه هو ورؤيته، بل ورؤية خطه، وأنّ الشقاوة تكون
بعكس حُبّه، فقال:
حَلَفتُ
يمينًا إنّني لا يُحــبّني
|
سِوى
أسْعَدٍ، والعكس في حال بُغضيَا
|
|
وقد
عَلِم الأقوام أنّي خَدِيمُه
|
فوَصْلُ
حبيبِ الله يُلفَى بوَصليَا
|
|
وما
قُلتُ قولِي شاطحًا متبجِّحًا
|
وما
مسّنِي سُكرٌ يُغيّبُ عَقلِيَا
|
|
وإنّ
خطوطي للأنام سعادةٌ
|
فلَم
يَشقَ يومًا مَن رآنِي، وخطِّيَا
|
|
وما
قلتُ هذا دون إذنٍ وإنّنِي
|
لأكتُمُ
سِرًّا لا يُبَاحُ لغيرِيَا
|
|
وذا
كُلّه من حُبّ سيّدِ مُرْسَلٍ
|
عليه
صلاة الله، ولْتعْلُ شأنِيَا
|
(قاله في ديوان أوثق الُعرَى في مدح سيّد الوَرى r، 116-117).
([10]) قال ابن حجر: «قَوْله: "لا
تُطْرُونِي" -بِضَمِّ أَوَّله- وَالإِطْرَاء: الْمَدْح بِالْبَاطِلِ، تَقُول:
أَطْرَيْت فُلانًا: مَدَحْته فَأَفْرَطْت فِي مَدْحه» فتح الباري مع صحيح
البخاري، (ج2 /ص2544)، وانظر: تيسير العزيز الحميد، ص 262–263.وعشرون حديثًا من
صحيح البخاري للعباد، (ج2/ص213)، هذه مفاهيمنا للشيخ صالح آل الشيخ، (ص228).
([14])
ومن ثناء إبراهيم إنياس على البوصيري صاحب البردة الْمُغالِي في الرّسول r
الذي يَنسِجُ هو على منواله قوله في (سَلوَة
الشجون، ص100):
فما ترَك البوصير قولا لقائل
|
وكعبٌ وحسّان المديح تكلموا
|
No comments:
Post a Comment