بيان فضْل طلب العلم
وذكر آداب العالم والمتعلم
استلال وتلخيص
لجزء من مقدمة كتاب المجموع للنووي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أسعد النبيين
وإمام المرسلين، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا استلال وتلخيص لجزء مُهمّ مِن
مقدمة الشيخ أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي لكتابه المجموع شرح المهذّب،
وقد بيّن الشيخ في فاتحة الكتاب بأنَّه سيذكر قَوَاعِدَ
وَأُصُولًا يرجع بعضها إلى باب فَضْل الْعِلْمِ، وَبَيَان أَقْسَامِهِ،
وَمُسْتَحِقِّي فَضْلِهِ، وَآدَاب الْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ،
وَأَحْكَام الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي وَصِفَة الْفَتْوَى وَآدَابهَا،
وسيأتي في هذه الأوراق تلخيص للجزء المتعلق بمنتهى الأرب الذي هو أدبُ الطلب، دون
غيره؛ ذلك أنّ حاجةُ الطلاب إلى ما في هذه المقدمة والمعلمين على حدّ سواء مُلِحَّة،
والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
بَابٌ فِي فَضِيلَة الِاشْتِغَال بِالْعِلْمِ
وَتَصْنِيفِهِ، وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَالْإِرْشَادِ
إلَى طُرُقِهِ
قَدْ تَكَاثَرَتْ الْآيَاتُ
وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَتَوَاتَرَتْ، وَتَطَابَقَتْ الدَّلَائِلُ
الصَّرِيحَةُ وَتَوَافَقَتْ: عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى
تَحْصِيلِهِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي اقْتِبَاسِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَنَا أَذْكُرُ
طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ، تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُنَالِكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون)، وقال تعالى: (وقل رب زدني علما)، وَقَالَ
تَعَالَى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء)، وَقَالَ
تَعَالَى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذين أوتوا العلم
درجات)، وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ
بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ
الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ
مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا؛ فَكَانَتْ مِنْهَا
طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ
الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ
بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً
مِنْهَا أُخْرَى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا تُنْبِتُ
كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فقه في دين الله ونفعه ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ،
فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ
يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا حسد إلا في
اثنين؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الحق، ورجل
أتاه الله الحكمة فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" رَوَيَاهُ. وَالْمُرَادُ
بِالْحَسَدِ الْغِبْطَةُ وَهِيَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَهُ، وَمَعْنَاهُ: يَنْبَغِي
أَنْ لَا يَغْبِطَ أَحَدًا إلَّا فِي هَاتَيْنِ الْمُوصِلَتَيْنِ إلَى رِضَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ الله عنه:
"فو الله لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ
حُمْرِ النَّعَمِ "، رَوَيَاهُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ دَعَا
إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ
ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عليه من الإثم
مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ، رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ
عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ؛ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ،
أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ
حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضْلُ
الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حتى النملة في حجرها وَحَتَّى الْحُوتَ
لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ،
وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
* وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الدُّنْيَا
مَلْعُونَةٌ؛ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ،
وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
* وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ
سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلَى
الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ
رِضَاءً بما يصنع، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى
الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
وَرَثَةُ الأنبياء؛ إن الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا
وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ،
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. وَفِي
الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ كِفَايَةٌ.
* وَأَمَّا الْآثَارُ عَنْ السَّلَفِ فَأَكْثَرُ
مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَذْكُرَ، لَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا
أَحْرُفًا مُشِيرِينَ إلَى غَيْرِهَا وَمُنَبَّهِينَ؛ فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: كَفَى بِالْعِلْمِ شَرَفًا أَنْ يَدَّعِيَهُ مَنْ لَا
يُحْسِنُهُ وَيَفْرَحَ إذَا نُسِبَ إلَيْهِ، وَكَفَى بِالْجَهْلِ ذَمًّا أَنْ
يَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَنْ هُوَ فِيهِ.
* وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا
الْعِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ،
وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لَا
يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأهله قُربة.
* وقال أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ: مَثَلُ
الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ مَثَلُ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ؛ إذَا بَدَتْ
لِلنَّاسِ اهْتَدَوْا بِهَا، وَإذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ تَحَيَّرُوا.
* عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: يَتَشَعَّبُ مِنْ الْعِلْمِ
الشَّرَفُ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ دَنِيئًا، وَالْعِزُّ وَإِنْ كَانَ مَهِينًا،
وَالْقُرْبُ وَإِنْ كَانَ قَصِيًّا، وَالْغِنَى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا،
وَالنُّبْلُ وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا، وَالْمَهَابَةُ وَإِنْ كَانَ وَضِيعًا،
وَالسَّلَامَةُ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا.
* وَعَنْ الْفُضَيْلِ قَالَ: عَالِمٌ عَامِلٌ
بِعِلْمِهِ يُدْعَى كَبِيرًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ.
* وَقَالَ غيره: الْعَالِمُ كَالسِّرَاجِ مَنْ مَرَّ
بِهِ اقْتَبَسَ.
* وَقِيلَ: الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ
الْمَالَ، وَهُوَ يَدْفَعُ عَنْكَ وَأَنْتَ تَدْفَعُ عَنْ الْمَالِ.
* وَقِيلَ: الْعِلْمُ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنْ
الْجَهْلِ، وَمِصْبَاحُ الْبَصَائِرِ فِي الظُّلَمِ؛ بِهِ تُبْلَغُ مَنَازِلُ
الْأَبْرَارِ وَدَرَجَاتِ الْأَخْيَارِ، وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ وَمُدَارَسَتُهُ
تُرَجَّحُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَصَاحِبُهُ مُبَجَّلٌ مُكَرَّمٌ.
* وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: طَلَبُ
الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ.
* وَقَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنْ
طَلَبِ الْعِلْمِ.
* وَقَالَ: مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا فَعَلَيْهِ
بِالْعِلْمِ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ.
* وَقَالَ: منْ لَا يُحِبُّ الْعِلْمَ فَلَا خَيْرَ
فِيهِ، فَلَا يَكُنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ وَلَا صَدَاقَةٌ.
* وَقَالَ: الْعِلْمُ مُرُوءَةُ مَنْ لَا مُرُوءَةَ
لَهُ.
* وَقَالَ: إن لم تكن الْفُقَهَاءُ الْعَامِلُونَ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ وَلِيٌّ.
* وَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَوْرَعُ لِخَالِقِهِ مِنْ
الْفُقَهَاءِ.
* وَقَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ
قِيمَتُهُ، وَمَنْ نَظَرَ فِي الْفِقْهِ نَبُلَ قَدْرُهُ، وَمَنْ نَظَرَ فِي
اللُّغَةِ رَقَّ طَبْعُهُ، وَمَنْ نَظَرَ فِي الْحِسَابِ جَزُلَ رَأْيُهُ، وَمَنْ
كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ
يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ.
* وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْفَرَائِضِ:
قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ t: تَعَلَّمُوا قَبْلَ الظَّانِّينَ، قَالَ
الْبُخَارِيُّ: يَعْنِي الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ، وَمَعْنَاهُ:
تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ الْمُحَقِّقِينَ الْوَرِعِينَ قَبْلَ
ذهابهم ومجيء قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِلْمِ بِمِثْلِ ظُنُونِهِمْ التي ليس
لها مستندٌ شرعيٌّ.
فَصْلٌ فِي تَرْجِيحِ الِاشْتِغَالِ
بِالْعِلْمِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ
الْقَاصِرَةِ عَلَى فَاعِلِهَا
قَدْ تَقَدَّمَتْ الْآيَاتُ
الْكَرِيمَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يعلمون)، وقَوْله تَعَالَى: (إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء)، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
* وَمِنْ الْأَحَادِيثِ مَا سَبَقَ كَحَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ: لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، وَحَدِيثِ: مَنْ يُرِدْ
اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَحَدِيثِ: إذَا مَاتَ
ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، وَحَدِيثِ: مَنْ
سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، وَحَدِيثِ: مَنْ دَعَا إلَى
هُدًى، وَحَدِيثِ: لأن يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا.
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ.
* وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِذَا فِي الْمَسْجِدِ مَجْلِسَانِ؛ مَجْلِسٌ يَتَفَقَّهُونَ
وَمَجْلِسٌ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْأَلُونَهُ فَقَالَ: كِلَا الْمَجْلِسَيْنِ
إلَى خَيْرٍ، أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ
فَيَتَعَلَّمُونَ وَيُفَقِّهُونَ الْجَاهِلَ. هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ: بِالتَّعْلِيمِ
أُرْسِلْتُ، ثُمَّ قَعَدَ مَعَهُمْ. رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابن ماجه.
* وروى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْفَقِيهِ
وَالْمُتَفَقِّهِ) أَحَادِيثَ وَآثَارًا كَثِيرَةً بِأَسَانِيدِهَا، مِنْهَا: عَنْ
ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا،
قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وما رياض الجنة؟ قال: حِلَق الذِّكْرِ؛ فَإِنَّ لِلَّهِ
سَيَّارَاتٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذِّكْرِ، فَإِذَا أَتَوْا
عَلَيْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ.
* وعن عطاء قال: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام؛
كيف تشترى وتبيع، وتصلي وتصوم، تنكح وَتُطَلِّقُ وَتَحُجُّ، وَأَشْبَاهُ هَذَا.
* وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا نَحْنُ لَوْلَا
كَلِمَاتُ الْفُقَهَاءِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْعَالِمُ
أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
* وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَا: بَابٌ مِنْ الْعِلْمِ نَتَعَلَّمُهُ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ
أَلْفِ رَكْعَةِ تَطَوُّعٍ، وَبَابٌ مِنْ الْعِلْمِ نَعْلَمُهُ عُمِلَ بِهِ
أَوْ لَمْ يُعْمَلْ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ مِائَةِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا.
* وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأَنْ
أَعْلَمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ فِي أَمْرٍ وَنَهْيٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
سَبْعِينَ غَزْوَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
* وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: مُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ
سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ.
* وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: لَأَنْ
أَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ فَأُعَلِّمَهُ مُسْلِمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
أَنْ تَكُونَ لِي الدُّنْيَا كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.
* وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: دِرَاسَةُ
الْعِلْمِ صَلَاةٌ.
* وَعَنْ سفيان الثوري والشافعي: ليس شيء بَعْدَ
الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ.
* وَعَنْ أحمد بن حنبل وقيل له أيّ شيء أَحَبُّ إلَيْكَ؛ أَجْلِسُ
بِاللَّيْلِ أَنْسَخُ أَوْ أُصَلِّي تَطَوُّعًا؟ قَالَ: فَنُسَخُكَ تَعْلَمُ بِهَا
أَمْرَ دِينِكَ فهو أَحَبُّ.
* وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: ليست عبادة
بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلَكِنْ بِالْفِقْهِ فِي دِينِهِ. يَعْنِي: لَيْسَ
أَعْظَمُهَا وَأَفْضَلُهَا الصَّوْمَ بَلْ الْفِقْهَ.
* وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَرْفَعُ النَّاسِ
عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَنْزِلَةً مَنْ كَانَ بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ،
وَهُمْ الرُّسُلُ وَالْعُلَمَاءُ.
* وَعَنْ سَهْلٍ التُّسْتَرِيِّ: مَنْ أَرَادَ
النَّظَرَ إلَى مَجَالِسِ الْأَنْبِيَاءِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَجَالِسِ
الْعُلَمَاءِ؛ فَاعْرِفُوا لَهُمْ ذَلِكَ.
* فَهَذِهِ أَحْرُفٌ مِنْ أَطْرَافِ مَا جَاءَ فِي
تَرْجِيحِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَجَاءَ عَنْ جَمَاعَاتٍ
مِنْ السَّلَفِ مِمَّنْ لَمْ أَذْكُرْهُ نَحْوُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَالْحَاصِلُ
أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ
الاشتغال بِنَوَافِلِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
نَوَافِلِ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ. وَمِنْ دَلَائِلِهِ سِوَى مَا سَبَقَ أَنَّ
نَفْعَ الْعِلْمِ يَعُمُّ صَاحِبَهُ وَالْمُسْلِمِينَ وَالنَّوَافِلُ
الْمَذْكُورَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ مُصَحِّحٌ فَغَيْرُهُ مِنْ
الْعِبَادَاتِ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ
وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يُوصَفُ الْمُتَعَبِّدُونَ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ
الْعَابِدَ تَابِعٌ لِلْعَالِمِ مُقْتَدٍ بِهِ مقلد له في عبادته وَغَيْرِهَا
وَاجِبٌ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ تَبْقَى
فَائِدَتُهُ وَأَثَرُهُ بَعْدَ صَاحِبِهِ وَالنَّوَافِلُ تَنْقَطِعُ بِمَوْتِ
صَاحِبِهَا، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ
فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ أَعْنِي: الْعِلْمَ الذي كلامنا فِيهِ فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ
النَّافِلَةِ، وَقَدْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
الْغِيَاثِيِّ: فَرْضُ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ؛ مِنْ حَيْثُ
إنَّ فَاعِلَهُ يَسُدُّ مَسَدَّ الْأُمَّةِ وَيُسْقِطُ الْحَرَجَ عَنْ الْأُمَّةِ،
وَفَرْضُ الْعَيْنِ قَاصِرٌ عَلَيْهِ.
* فَصْلٌ فِيمَا أَنْشَدُوهُ فِي فَضْلِ طلب
العلم
هذا وَاسِعٌ جِدًّا، وَلَكِنْ مِنْ
عُيُونِهِ مَا جَاءَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ التَّابِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ:
* الْعِلْمُ زَيْنٌ وَتَشْرِيفٌ
لِصَاحِبِهِ * فَاطْلُبْ –هُدِيتَ- فُنُونَ الْعِلْمِ وَالْأَدَبَا
لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَهُ أَصْلٌ بِلَا
أَدَبٍ * حَتَّى يَكُونَ عَلَى مَا زَانَهُ حَدَبَا
كَمْ مِنْ كَرِيمٍ أَخِي عَيٍّ
وَطَمْطَمَةٍ * فَدْمٌ لَدَى الْقَوْمِ مَعْرُوفٌ إذَا انْتَسَبَا
فِي بَيْتِ مَكْرُمَةٍ آبَاؤُهُ نُجُبُ *
كانوا الرؤوس فأمسى بعدهم ذَنَبَا
وَخَامِلٍ مُقْرِفِ الْآبَاءِ ذِي
أَدَبٍ * نَالَ الْمَعَالِيَ بِالْآدَابِ وَالرُّتَبَا
أَمْسَى عَزِيزًا عَظِيمَ الشَّأْنِ
مُشْتَهِرَا * فِي خَدِّهِ صَعَرٌ قَدْ ظَلَّ مُحْتَجِبَا
العلم كنز ذخر لا نفاد له لَهُ *
نِعْمَ الْقَرِينُ إذَا مَا صَاحِبٌ صَحِبَا
قد يجمع المرء مالا ثُمَّ يُحْرَمُهُ *
عَمَّا قَلِيلٍ فَيَلْقَى الذُّلَّ وَالْحَرْبَا
وَجَامِعُ الْعِلْمِ مَغْبُوطٌ بِهِ
أَبَدَا * وَلَا يُحَاذِرُ مِنْهُ الْفَوْتَ وَالسَّلَبَا
يَا جَامِعَ الْعِلْمِ نِعْمَ
الذُّخْرُ تَجْمَعُهُ * لَا تَعْدِلَنَّ بِهِ دُرًّا وَلَا ذَهَبَا
غَيْرُهُ:
تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ
عَالِمَا * وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
وَإِنَّ كَبِيرَ الْقَوْمِ لَا عِلْمَ
عِنْدَهُ * صَغِيرٌ إذَا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ
وَلِآخَرَ:
عَلِّمْ الْعِلْمَ مَنْ أَتَاكَ
لِعِلْمٍ * وَاغْتَنِمْ -مَا حَيِيتَ- مِنْهُ الدُّعَاءَ
وَلْيَكُنْ عِنْدَكَ الْغَنِيُّ إذَا
مَا * طَلَبَ الْعِلْمَ وَالْفَقِيرُ سَوَاءَ
وَلِآخَرَ:
مَا الْفَخْرُ إلَّا لِأَهْلِ العلم إنهموا
* عَلَى الْهُدَى لِمَنْ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ
وَقَدْرُ كُلِّ امرئٍ ما كان يُحسنه *
والجاهلون لأهل الْعِلْمِ أَعْدَاءُ
وَلِآخَرَ:
صَدْرُ الْمَجَالِسِ حَيْثُ حَلَّ
لَبِيبُهَا * فَكُنْ اللَّبِيبَ وَأَنْتَ صَدْرُ الْمَجْلِسِ
وَلِآخَرَ:
عَابَ التَّفَقُّهَ قَوْمٌ لَا
عُقُولَ لَهُمْ * وَمَا عَلَيْهِ إذَا عَابُوهُ مِنْ ضَرَرِ
مَا ضَرَّ شَمْسُ الضُّحَى
وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ * أَنْ لَا يَرَى ضَوْءَهَا مَنْ لَيْسَ ذَا بَصَرِ
فَصْلٌ: فِي ذَمِّ مَنْ أَرَادَ بِفِعْلِهِ
غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى
اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
الْفَضْلِ في طلب العلم إنما هو في من طَلَبَهُ مُرِيدًا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ
تَعَالَى لَا لِغَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَنْ أَرَادَهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ
كَمَالٍ أَوْ رِيَاسَةٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ وَجَاهَةٍ أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ
اسْتِمَالَةِ النَّاسِ إلَيْهِ أَوْ قَهْرِ الْمُنَاظِرِينَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ
فَهُوَ مَذْمُومٌ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله
في الآخرة من نصيب). وَقَالَ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ
عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جعلنا له جهنم يصلاها
مذموما مدحورا) الآية: وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا أُمِرُوا إِلا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدين حنفاء) . وَالْآيَاتُ فِيهِ
كَثِيرَةٌ.
* وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ،
قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ ليقال جريءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ
بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ
الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ
فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ
وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ
تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: قَارِئٌ فَقَدْ
قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
* وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا
يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ
بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَعْنِي رِيحَهَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
* وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يُنْتَفَعُ
بِهِ فِي الْآخِرَةِ يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يُرِحْ رَائِحَةَ
الْجَنَّةِ. وَمَعْنَاهُ لَمْ يَجِدْ رِيحَهَا.
* وَعَنْ أَنَسٍ وَحُذَيْفَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ
بِهِ السُّفَهَاءَ وَيُكَاثِرَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أو يصرف به وجوه الناس إليه
فليتبوء مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَالَ فِيهِ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ.
وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: يا حملة العلم اعْمَلُوا بِهِ،
فَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَوَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ،
وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ؛
يُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُمْ وَيُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ، يَجْلِسُونَ
حِلَقًا يُبَاهِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى
جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ
أَعْمَالُهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ تِلْكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
* وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: مَنْ طَلَبَ
الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَكَرَ بِهِ. وَالْآثَارُ بِهِ كَثِيرَةٌ.
* فَصْلٌ: فِي النَّهْيِ الْأَكِيدِ
وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ يُؤْذِي أَوْ يَنْتَقِصُ الْفُقَهَاءَ
وَالْمُتَفَقِّهِينَ، وَالْحَثُّ عَلَى إكْرَامِهِمْ وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِمْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فإنها من تقوى القلوب) وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خير له عند ربه)، وقال تعالى: (واخفض
جناحك للمؤمنين)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا).
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ قَالَ: مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: إنْ لَمْ تَكُنْ
الْفُقَهَاءُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ وَلِيٌّ. وَفِي كَلَامِ
الشَّافِعِيِّ: الْفُقَهَاءُ الْعَامِلُونَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ
عَسَاكِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْلَمْ يَا أَخِي -وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ
لِمَرْضَاتِهِ وَجَعَلَنَا مِمَّنْ يَخْشَاهُ وَيَتَّقِيهِ حَقَّ تُقَاتِهِ- أَنَّ
لُحُومَ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم مَعْلُومَةٌ،
وَأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ فِي الْعُلَمَاءِ بِالثَّلَبِ، بَلَاهُ اللَّهُ
قَبْلَ مَوْتِهِ بِمَوْتِ الْقَلْبِ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
*بَابُ أَقْسَامِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ
هِيَ ثَلَاثَةٌ:
القسم الْأَوَّلُ: فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ الَّذِي
تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إلَّا به؛ ككيفية الوضوء وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا،
وَعَلَيْهِ حَمَلَ جَمَاعَاتٌ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى
الْمَوْصِلِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلَبُ
الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ ثَابِتًا فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى فَرْضِ
الْكِفَايَةِ. وَأَمَّا أَصْلُ وَاجِبِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ
بِالْعَقَائِدِ فَيَكْفِي فِيهِ الإيمان بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتِقَادُهُ اعْتِقَادًا جَازِمًا سَلِيمًا
مِنْ كُلِّ شَكٍّ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ
الْمُتَكَلِّمِينَ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ
وَالْمُحَقِّقُونَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يُطَالِبْ أحدا بشيء سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ
الرَّاشِدُونَ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ
الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَلْ الصَّوَابُ لِلْعَوَامِّ وَجَمَاهِيرِ
الْمُتَفَقِّهِينَ وَالْفُقَهَاءِ الْكَفُّ عَنْ الْخَوْضِ فِي دَقَائِقِ
الْكَلَامِ؛ مَخَافَةً مِنْ اخْتِلَالٍ يَتَطَرَّقُ إلَى عَقَائِدِهِمْ يَصْعُبُ
عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهُ. بَلْ الصَّوَابُ لَهُمْ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّصْدِيقِ الْجَازِمِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى
هَذِهِ الْجُمْلَةِ جَمَاعَاتٌ مِنْ حُذَّاقِ العلماء؛ وَقَدْ بَالَغَ إمَامُنَا
الشَّافِعِيُّ فِي تَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ أَشَدَّ
مُبَالَغَةٍ، وَأَطْنَبَ فِي تَحْرِيمِهِ وَتَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ لِمُتَعَاطِيهِ،
وَتَقْبِيحِ فِعْلِهِ وَتَعْظِيمِ الْإِثْمِ فِيهِ، فَقَالَ: لَأَنْ يَلْقَى
اللَّهُ الْعَبْدَ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشرك خير من أن يلقاه بشيء مِنْ
الْكَلَامِ. وَأَلْفَاظُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ.
* (فرع): لا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ تَعَلُّمَ
كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَشَبَهِهِمَا إلا بعد وجوب ذلك الشيء؛
فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ صَبَرَ إلَى دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ
تَمَامِ تَعَلُّمِهَا مَعَ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ؛ فَهَلْ يَلْزَمُهُ
التَّعَلُّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ؟ تَرَدَّدَ فِيهِ الْغَزَالِيُّ، وَالصَّحِيحُ مَا
جَزَمَ بِهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَقْدِيمُ التَّعَلُّمِ، كَمَا يَلْزَمُ
السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ لِمَنْ بَعُدَ مَنْزِلُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ. ثُمَّ
إذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ تَعَلُّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى
الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ فَعَلَى التَّرَاخِي، ثُمَّ
الَّذِي يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا يَتَوَقَّفُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ
غَالِبًا دُونَ مَا يَطْرَأُ نَادِرًا، فَإِنْ وَقَعَ وَجَبَ التَّعَلُّمُ
حِينَئِذٍ.
* (فَرْعٌ): أَمَّا الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ
وَشَبَهُهُمَا مِمَّا لَا يَجِبُ أَصْلُهُ، فَيَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ
إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ شَرْطِهِ وكيفيته، وَكَذَا يُقَالُ فِي صَلَاةِ
النَّافِلَةِ يَحْرُمُ التَّلَبُّسُ بِهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ
كَيْفِيَّتَهَا.
* (فَرْعٌ):
يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنْ الْمَأْكُولِ
وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا غِنًى لَهُ عَنْهُ غَالِبًا،
وَكَذَلِكَ أَحْكَامِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ إنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ، وَنَحْوِ
ذَلِكَ.
* (فَرْعٌ): قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ -رَحِمَهُمُ
اللَّهُ- عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ مَا
سَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ فَيُعَلِّمُهُ الْوَلِيُّ
الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا، وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ
الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ
وَالْغِيبَةِ وَشَبَهِهَا، وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُ فِي
التَّكْلِيفِ وَيُعَرِّفُهُ مَا يَبْلُغُ بِهِ. وَقِيلَ: هَذَا التَّعْلِيمُ
مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي ماله،
وهذا أَوْلَى. وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ مَا زَادَ عَلَى هَذَا مِنْ تَعْلِيمِ
الْقُرْآنِ وَفِقْهٍ وَأَدَبٍ. وَيُعَرِّفُهُ مَا يصلح به مَعَاشَهُ. وَدَلِيلُ
وُجُوبِ تَعْلِيمِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارا)، قَالَ عَلِيُّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ:
عَلِّمُوهُمْ مَا يَنْجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَثَبَتَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ.
* وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَالْأَصْحَابَ إنَّمَا
جَعَلُوا لِلْأُمِّ مَدْخَلًا فِي وُجُوبِ التَّعْلِيمِ لِكَوْنِهِ مِنْ
التَّرْبِيَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عليها كالنفقة والله أعلم.
* (فَرْعٌ): أَمَّا عِلْمُ الْقَلْبِ وَهُوَ
مَعْرِفَةُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ كَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَشَبَهِهِمَا فَقَالَ
الْغَزَالِيُّ مَعْرِفَةُ حُدُودِهَا وَأَسْبَابِهَا وَطِبِّهَا وَعِلَاجِهَا
فَرْضُ عَيْنٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إنْ رُزِقَ الْمُكَلَّفُ قَلْبًا سَلِيمًا مِنْ
هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْمُحَرَّمَةِ كَفَاهُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ تَعَلُّمُ
دَوَائِهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ نَظَرَ إنْ تَمَكَّنَ مِنْ تَطْهِيرِ قَلْبِهِ
مِنْ ذَلِكَ بِلَا تعلم لَزِمَهُ التَّطْهِيرُ كَمَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ الزِّنَا
وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمِ أَدِلَّةِ التَّرْكِ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ
مِنْ التَّرْكِ إلَّا بِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمَذْكُورِ تَعَيَّنَ حِينَئِذٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
* (الْقِسْمُ الثَّانِي) فَرْضُ الْكِفَايَةِ،
وَهُوَ تَحْصِيلُ مَا لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ فِي إقَامَةِ دِينِهِمْ مِنْ
الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَعُلُومِهِمَا
وَالْأُصُولِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمَعْرِفَةِ
رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ عِلْمًا
شَرْعِيًّا وَيُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي قِوَامِ أَمْرِ الدُّنْيَا كَالطِّبِّ
وَالْحِسَابِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ أَيْضًا. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعَلُّمِ
الصَّنَائِعِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ قِيَامِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا كَالْخِيَاطَةِ
وَالْفِلَاحَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي أَصْلِ فِعْلِهَا
فَقَالَ الْإِمَامُ الْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ صَاحِبُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: هِيَ فَرْضُ
كِفَايَةٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ الْمُرَادُ به تحصيل ذلك
الشيء مِنْ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَيَعُمُّ وُجُوبُهُ جَمِيعَ
الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ
الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِذَا قَامَ بِهِ جَمْعٌ تَحْصُلُ الْكِفَايَةُ
بِبَعْضِهِمْ، فَكُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْقِيَامِ بِالْفَرْضِ فِي
الثَّوَابِ
وَغَيْرِهِ، فَإِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ جَمْعٌ ثُمَّ
جَمْعٌ ثُمَّ جَمْعٌ فَالْكُلُّ يَقَعُ فَرْضَ كِفَايَةٍ. وَلَوْ أَطْبَقُوا
كُلُّهُمْ عَلَى تَرْكِهِ أَثِمَ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِمَّنْ عَلِمَ
ذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ
أَمْكَنَهُ الْعِلْمُ بِحَيْثُ يُنْسَبُ إلَى تَقْصِيرٍ وَلَا يَأْثَمُ مَنْ لَمْ
يَتَمَكَّنْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ أَهْلٍ أَوْ لِعُذْرٍ.
* وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَائِمِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ
مَزِيَّةً عَلَى الْقَائِمِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْحَرَجَ
عَنْ الْأُمَّةِ.
* (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) النَّفَلُ وَهُوَ
كَالتَّبَحُّرِ فِي أُصُولِ الْأَدِلَّةِ وَالْإِمْعَانِ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ
الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَكَتَعَلُّمِ الْعَامِّيِّ نَوَافِلَ
الْعِبَادَاتِ لِغَرَضِ الْعَمَلِ لَا مَا يَقُومُ بِهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ
تَمْيِيزِ الْفَرْضِ مِنْ النَّفْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي
حَقِّهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
* فَصْلٌ:
قَدْ ذَكَرْنَا أَقْسَامَ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ: وَمِنْ الْعُلُومِ الْخَارِجَةِ
عَنْهُ مَا هو محرَّمٌ أو مكروهٌ ومباحٌ:
فَالْمُحَرَّمُ كَتَعَلُّمِ السِّحْرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الْمَذْهَبِ
الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وكالفلسفة والشعبذة والتنجيم وعلوم
الطبائعبين وكل ما كان سببا لإثارة الشُّكُوكِ، وَيَتَفَاوَتُ فِي التَّحْرِيمِ. وَالْمَكْرُوهِ
كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ الَّتِي فِيهَا الْغَزْلُ وَالْبَطَالَةُ. وَالْمُبَاحُ
كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ التي ليس فيها سخف ولا شيء مِمَّا يُكْرَهُ وَلَا مَا
يُنَشِّطُ إلَى الشَّرِّ ولا ما يثبط عن الخير ولا مَا يَحُثُّ عَلَى خَيْرٍ أَوْ
يُسْتَعَانُ بِهِ عليه.
* فَصْلٌ: تَعْلِيمُ الطَّالِبِينَ
وَإِفْتَاءُ الْمُسْتَفْتِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ
يَصْلُحُ إلَّا وَاحِدٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ
فَطُلِبَ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمْ فَامْتَنَعَ فَهَلْ يَأْثَمُ؟ ذَكَرُوا
وَجْهَيْنِ فِي الْمُفْتِي وَالظَّاهِرُ جَرَيَانُهُمَا فِي الْمُعَلِّمِ، وَهُمَا
كَالْوَجْهَيْنِ فِي امْتِنَاعِ أَحَدِ الشُّهُودِ. وَالْأَصَحُّ لَا يَأْثَمُ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ
يَرْفُقَ بِالطَّالِبِ وَيُحْسِنَ إلَيْهِ مَا أَمْكَنَهُ، فَقَدْ رَوَى الترمذي بإسناده
عن أبى هارون الْعَبْدِيِّ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَقُولُ: مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ، وَإِنَّ رِجَالًا يَأْتُونَكُمْ
مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، فَإِذَا أَتَوْكُمْ
فَاسْتَوْصُوا بهم خيرا.
* باب آداب المعلم
هذا الباب واسع جدًّا وَسأَذْكُرُ
فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى نُبَذًا مِنْهُ:
فَمِنْ آدَابِهِ أَدَبُهُ فِي
نَفْسِهِ وَذَلِكَ فِي أُمُورٍ:
مِنْهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَقْصِدُ
تَوَصُّلًا إلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كَتَحْصِيلِ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ شُهْرَةٍ
أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ تَمَيُّزٍ عن الأشباه، أو تكثُّر بالمشتغلين عليه
الْمُخْتَلِفِينَ إلَيْهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: وَلَا يَشِينُ علمه وتعليمه بشيء
مِنْ الطَّمَعِ فِي رِفْقٍ تَحَصَّلَ لَهُ مِنْ مُشْتَغِلٍ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةٍ
أَوْ مَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَإِنْ قَلَّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى صُورَةِ
الْهَدِيَّةِ الَّتِي لَوْلَا اشْتِغَالُهُ عَلَيْهِ لَمَا أَهْدَاهَا إليه. ودليل
هذا كله ما سَبَقَ فِي بَابِ ذَمِّ مَنْ أَرَادَ بِعِلْمِهِ غَيْرَ اللَّهِ
تَعَالَى مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ
تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ عَلَى أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَيَّ حَرْفٌ مِنْهُ.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ عَلَى
الْغَلَبَةِ، وَوَدِدْتُ إذَا نَاظَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ عَلَى
يَدَيْهِ. وَقَالَ: مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إلَّا وَدِدْتُ أَنْ
يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ، وَيَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنْ اللَّهِ
وَحِفْظٌ.
* وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا
قَوْمِ أَرِيدُوا بِعِلْمِكُمْ اللَّهَ فَإِنِّي لَمْ أَجْلِسْ مَجْلِسًا قَطُّ
أَنْوِي فِيهِ أَنْ أَتَوَاضَعَ إلَّا لَمْ أَقُمْ حَتَّى أَعْلُوَهُمْ، وَلَمْ
أَجْلِسْ مَجْلِسًا قَطُّ أَنْوِي فِيهِ أَنْ أَعْلُوَهُمْ إلَّا لَمْ أَقُمْ
حَتَّى أَفْتَضِحَ.
* وَمِنْهَا: أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْمَحَاسِنِ
الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا، وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ وَالشِّيَمِ
الْمُرْضِيَةِ الَّتِي أَرْشَدَ إلَيْهَا مِنْ التَّزَهُّدِ فِي الدُّنْيَا
وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِفَوَاتِهَا، وَالسَّخَاءِ
وَالْجُودِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ
إلَى حَدِّ الخلاعة، والحلم والصبر والتنزه عن دنيء الِاكْتِسَابِ وَمُلَازَمَةِ
الْوَرَعِ وَالْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ
وَاجْتِنَابِ الضَّحِكِ وَالْإِكْثَارِ مِنْ الْمَزْحِ وَمُلَازَمَةِ الْآدَابِ
الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ، كَالتَّنْظِيفِ بِإِزَالَةِ
الْأَوْسَاخِ وَتَنْظِيفِ الْإِبْطِ وَإِزَالَةِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ
وَاجْتِنَابِ الرَّوَائِحِ الْمَكْرُوهَةِ، وَتَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ.
وَمِنْهَا: الْحَذَرُ مِنْ
الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ وَإِنْ كَانُوا
دُونَهُ بِدَرَجَاتٍ، وَهَذِهِ أَدْوَاءٌ وَأَمْرَاضٌ يُبْتَلَى بِهَا كَثِيرُونَ
مِنْ أَصْحَابِ الْأَنْفُسِ الْخَسِيسَاتِ.
* وَمِنْهَا: اسْتِعْمَالُهُ أَحَادِيثَ
التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ
وَسَائِرِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّاتِ.
وَمِنْهَا: دَوَامُ
مُرَاقَبَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي عَلَانِيَتِهِ وَسِرِّهِ، مُحَافِظًا عَلَى
قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَوَافِلِ الصلوات والصوم وغيرهما، مُعَوِّلًا عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَمْرِهِ، مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، مُفَوِّضًا فِي كُلِّ
الْأَحْوَالِ أَمْرَهُ إلَيْهِ.
* وَمِنْهَا: وَهُوَ مِنْ أَهَمِّهَا أَنْ لَا
يَذِلَّ الْعِلْمَ وَلَا يَذْهَبَ بِهِ إلَى مَكَان يَنْتَسِبُ إلَى مَنْ
يَتَعَلَّمُهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ كَبِيرَ الْقَدْرِ بَلْ يَصُونُ
الْعِلْمَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا صَانَهُ السَّلَفُ؛ وَأَخْبَارُهُمْ فِي هَذَا
مَشْهُورَةٌ مَعَ الْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنْ اقْتَضَتْ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ
عَلَى مَفْسَدَةِ ابْتِذَالِهِ رَجَوْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ مَا دَامَتْ
الْحَالَةُ هَذِهِ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي
هَذَا.
* وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا صَحِيحًا
جَائِزًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ مُخِلٌّ
بِالْمُرُوءَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخْبِرَ أَصْحَابَهُ
وَمَنْ يَرَاهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ لِيَنْتَفِعُوا،
وَلِئَلَّا يَأْثَمُوا بِظَنِّهِمْ الْبَاطِلَ، وَلِئَلَّا يَنْفِرُوا عَنْهُ
وَيَمْتَنِعَ الانتفاع بعلمه. وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: إنَّهَا
صَفِيَّةُ.
فَصل: ومن آدابه أدبه فِي دَرْسِهِ
وَاشْتِغَالِهِ:
فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَزَالَ مجتهدا
في الاشتغال بالعلم قراءة وإقراءا وَمُطَالَعَةً وَتَعْلِيقًا وَمُبَاحَثَةً وَمُذَاكَرَةً
وَتَصْنِيفًا، وَلَا يَسْتَنْكِفُ مِنْ التَّعَلُّمِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي
سِنٍّ أَوْ نَسَبٍ أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ دِينٍ أَوْ فِي عِلْمٍ آخَرَ بَلْ يَحْرِصُ
عَلَى الْفَائِدَةِ مِمَّنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي جميع هذا،
ولا يستحيى مِنْ السُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يَعْلَمْ. فعَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ.
* وَعَنْ مُجَاهِدٍ: لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ
مُسْتَحٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ
الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.
* وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَزَالُ
الرَّجُلُ عَالِمًا مَا تَعَلَّمَ، فَإِذَا تَرَكَ الْعِلْمَ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ
اسْتَغْنَى وَاكْتَفَى بِمَا عِنْدَهُ فَهُوَ أَجْهَلُ مَا يَكُونُ.
وَيَنْبَغِي أَنْ
لَا يَمْنَعَهُ ارْتِفَاعُ مَنْصِبِهِ وَشُهْرَتِهِ مِنْ اسْتِفَادَةِ مَا لَا
يَعْرِفُهُ، فَقَدْ كَانَ كَثِيرُونَ مِنْ السَّلَفِ يَسْتَفِيدُونَ مِنْ
تَلَامِذَتِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ رِوَايَةُ
جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ التَّابِعِينَ، وَهَذَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ
لَيْسَ تَابِعِيًّا وَرَوَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ مِنْ التَّابِعِينَ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قرأ: لم يكن الذين كفروا عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ،
فَاسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا فَوَائِدَ. ....
وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِالتَّصْنِيفِ إذا تأهل له،
فبه يَطَّلِعُ عَلَى حَقَائِقِ الْعِلْمِ وَدَقَائِقِهِ وَيَثْبُتُ مَعَهُ؛
لِأَنَّهُ يَضْطَرُّهُ إلَى كَثْرَةِ التَّفْتِيشِ وَالْمُطَالَعَةِ
وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مُخْتَلَفِ كَلَامِ
الْأَئِمَّةِ وَمُتَّفِقِهِ وَوَاضِحِهِ مِنْ مُشْكِلِهِ، وَصَحِيحِهِ مِنْ
ضَعِيفِهِ، وَجَزْلِهِ مِنْ رَكِيكِهِ، وَمَا لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ مِنْ
غَيْرِهِ. وَبِهِ يَتَّصِفُ الْمُحَقِّقُ بِصِفَةِ الْمُجْتَهِدِ. وَلْيَحْذَرْ
كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ يَشْرَعَ فِي تَصْنِيفِ مَا لَمْ يَتَأَهَّلْ لَهُ؛ فَإِنَّ
ذَلِكَ يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ وَعِرْضِهِ. وَلْيَحْذَرْ أَيْضًا مِنْ
إخْرَاجِ تَصْنِيفِهِ مِنْ يَدِهِ إلَّا بَعْدَ تَهْذِيبِهِ وَتَرْدَادِ نَظَرِهِ
فِيهِ وَتَكْرِيرِهِ. وَلْيَحْرِصْ عَلَى إيضَاحِ الْعِبَارَةِ وَإِيجَازِهَا،
فَلَا يُوَضِّحُ إيضَاحًا يَنْتَهِي إلَى الرَّكَاكَةِ، وَلَا يُوجِزُ إيجَازًا
يُفْضِي إلَى الْمَحْقِ وَالِاسْتِغْلَاقِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اعْتِنَاؤُهُ
مِنْ التَّصْنِيفِ بِمَا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ أَكْثَرَ؛ وَالْمُرَادُ بِهَذَا
أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مُصَنَّفٌ يُغْنِي عَنْ مُصَنَّفِهِ فِي جَمِيعِ
أَسَالِيبِهِ؛ فَإِنْ أَغْنَى عن بَعْضُهَا فَلْيُصَنِّفْ مِنْ جِنْسِهِ مَا
يَزِيدُ زِيَادَاتٍ يُحْتَفَلُ بِهَا مَعَ ضَمِّ مَا فَاتَهُ مِنْ الأساليب،
وَلْيَكُنْ تَصْنِيفُهُ فِيمَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَيَكْثُرُ الِاحْتِيَاجُ
إلَيْهِ.
* ومن آدابه آداب تَعْلِيمِهِ
اعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ
الْأَصْلُ الَّذِي بِهِ قِوَامُ الدِّينِ، وَبِهِ يُؤْمَنُ إمْحَاقُ الْعِلْمِ
فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَآكَدِ فُرُوضِ
الْكِفَايَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه)، وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا) الْآيَةُ. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ
مِنْكُمْ الْغَائِبَ. وَالْأَحَادِيثُ بِمَعْنَاهُ كَثِيرَةٌ، وَالْإِجْمَاعُ
مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ. وَيَجِبُ عَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ
وجه الله تعالى، وألا يجعله وَسِيلَةً إلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ؛ فَيَسْتَحْضِرُ
الْمُعَلِّمُ فِي ذهنه كون التعليم آكد العبادات ليكون ذَلِكَ حَاثًّا لَهُ عَلَى
تَصْحِيحِ النِّيَّةِ وَمُحَرِّضًا لَهُ عَلَى صِيَانَتِهِ مِنْ مُكَدَّرَاتِهِ،
وَمِنْ مَكْرُوهَاتِهِ؛ مَخَافَةَ فَوَاتِ هَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْخَيْرِ
الْجَسِيمِ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنْ تَعْلِيمِ أَحَدٍ
لِكَوْنِهِ غَيْرَ صَحِيحِ النِّيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ حُسْنُ النِّيَّةِ،
وَرُبَّمَا عَسُرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُبْتَدِئِينَ بِالِاشْتِغَالِ تَصْحِيحُ
النِّيَّةِ؛ لِضَعْفِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ أُنْسِهِمْ بِمُوجِبَاتِ تَصْحِيحِ
النِّيَّةِ، فَالِامْتِنَاعُ مِنْ تَعْلِيمِهِمْ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ كَثِيرٍ
مِنْ الْعِلْمِ، مع أنه يرجي ببركة العلم تصحيحها إذَا أَنِسَ بِالْعِلْمِ. وَقَدْ
قَالُوا: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا
لِلَّهِ. مَعْنَاهُ: كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَنْ صَارَ لِلَّهِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَ الْمُتَعَلِّمَ عَلَى
التَّدْرِيجِ بِالْآدَابِ السُّنِّيَّةِ والشم الْمُرْضِيَةِ وَرِيَاضَةِ نَفْسِهِ
بِالْآدَابِ وَالدَّقَائِقِ الْخَفِيَّةِ، وَتَعَوُّدِهِ الصِّيَانَةَ فِي جَمِيعِ
أُمُورِهِ الْكَامِنَةِ وَالْجَلِيَّةِ.
* فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يُحَرِّضَهُ بِأَقْوَالِهِ
وَأَحْوَالِهِ الْمُتَكَرِّرَاتِ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ وَحُسْنِ
النِّيَّاتِ، وَمُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ اللَّحَظَاتِ، وَأَنْ
يَكُونَ دَائِمًا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الْمَمَاتِ، وَيُعَرِّفَهُ أَنَّ بِذَلِكَ
تَنْفَتِحُ عليه أبواب المعارف، وينشرح صدره، وتتفجر من قبله يَنَابِيعُ الْحِكَمِ
وَاللَّطَائِفِ، وَيُبَارَكُ لَهُ فِي حَالِهِ وَعِلْمِهِ وَيُوَفَّقُ لِلْإِصَابَةِ
فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَحُكْمِهِ. وَيُزَهِّدَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَصْرِفَهُ
عَنْ التَّعَلُّقِ بِهَا وَالرُّكُونِ إلَيْهَا وَالِاغْتِرَارِ بِهَا.
وَيُذَكِّرَهُ أَنَّهَا فَانِيَةٌ وَالْآخِرَةُ آتِيَةٌ بَاقِيَةٌ وَالتَّأَهُّبُ
لِلْبَاقِي وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الفاني هُوَ طَرِيقُ الْحَازِمِينَ وَدَأْبُ
عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَغِّبَهُ فِي الْعِلْمِ
وَيُذَكِّرَهُ بِفَضَائِلِهِ وَفَضَائِلِ الْعُلَمَاءِ؛ وَأَنَّهُمْ وَرَثَةُ
الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليهم، ولا رتبة في الوجود أَعْلَى مِنْ
هَذِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنُوَ عَلَيْهِ وَيَعْتَنِيَ بِمَصَالِحِهِ
كَاعْتِنَائِهِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، وَيُجْرِيَهُ مَجْرَى وَلَدِهِ
فِي الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَالِاهْتِمَامِ بِمَصَالِحِهِ، والصبر عل جفائه وسوء
أدبه. ويعذره فِي سُوءِ أَدَبٍ وَجَفْوَةٍ تَعْرُضُ مِنْهُ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُعَرَّضٌ لِلنَّقَائِصِ، وَيَنْبَغِي أَنْ
يُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْرِ، وَيَكْرَهَ لَهُ مَا
يَكْرَهُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الشَّرِّ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: لَا يُؤْمِنُ
أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَكْرَمُ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسِي
الَّذِي يَتَخَطَّى النَّاسَ حَتَّى يَجْلِسَ إلَيَّ؛ لَوْ اسْتَطَعْتُ أَلَّا يَقَعَ
الذُّبَابُ عَلَى وَجْهِهِ لَفَعَلْتُ. وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّ الذُّبَابَ
يَقَعُ عليه فيؤذيني.
وينبغي أن يكون سمحا ببذل مَا حَصَّلَهُ مِنْ الْعِلْمِ
سَهْلًا بِإِلْقَائِهِ إلَى مُبْتَغِيهِ، مُتَلَطِّفًا فِي إفَادَتِهِ طَالِبِيهِ
مَعَ رِفْقٍ وَنَصِيحَةٍ وَإِرْشَادٍ إلَى الْمُهِمَّاتِ، وَتَحْرِيضٍ عَلَى
حِفْظِ مَا يَبْذُلُهُ لَهُمْ مِنْ الْفَوَائِدِ النَّفِيسَاتِ، وَلَا يَدَّخِرُ
عَنْهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ شَيْئًا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ إذَا كَانَ
الطَّالِبُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَلَا يلق إلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَتَأَهَّلْ لَهُ؛
لِئَلَّا يُفْسِدَ عليه حاله، فَلَوْ سَأَلَهُ الْمُتَعَلِّمُ عَنْ ذَلِكَ لَمْ
يُجِبْهُ وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، وَأَنَّهُ لَمْ
يَمْنَعْهُ ذَلِكَ شُحًّا بَلْ شَفَقَةً وَلُطْفًا.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَظَّمَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ
بَلْ يَلِينُ لَهُمْ، وَيَتَوَاضَعُ فَقَدْ أُمِرَ بِالتَّوَاضُعِ لِآحَادِ
النَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ).
* وعن عياض بن حماد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ أَوْحَى
إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا نَقَصَتْ
صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وَمَا
تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَهَذَا فِي التَّوَاضُعِ لِمُطْلَقِ النَّاسِ فَكَيْفَ
بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ كَأَوْلَادِهِ، مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ
الْمُلَازَمَةِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَمَعَ مَا لَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ
الصُّحْبَةِ، وَتَرَدُّدِهِمْ إلَيْهِ وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَيْهِ، وَعَنْ
الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ اللَّهَ عز وجل يحب العالم
المتواضع ويبغض العالم الْجَبَّارَ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ تَعَالَى وَرَّثَهُ
الْحِكْمَةَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى تَعْلِيمِهِمْ،
مُهْتَمًّا بِهِ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى حَوَائِجِ نَفْسِهِ وَمَصَالِحِهِ مَا لَمْ
تَكُنْ ضَرُورَةٌ، وَيُرَحِّبُ بِهِمْ عِنْدَ إقْبَالِهِمْ إلَيْهِ لِحَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ.
وَيُظْهِرُ لَهُمْ الْبِشْرَ وَطَلَاقَةَ الْوَجْهِ،
وَيُحْسِنُ إلَيْهِمْ بِعِلْمِهِ وماله وَجَاهِهِ بِحَسْبِ التَّيْسِيرِ. وَلَا
يُخَاطِبُ الْفَاضِلَ مِنْهُمْ بِاسْمِهِ بَلْ بِكُنْيَتِهِ وَنَحْوِهَا، فَفِي
الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَنِّي أَصْحَابَهُ إكْرَامًا لَهُمْ وَتَسْنِيَةً
لِأُمُورِهِمْ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَهُمْ وَيَسْأَلَ عَمَّنْ
غَابَ مِنْهُمْ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا وُسْعَهُ فِي
تَفْهِيمِهِمْ وَتَقْرِيبِ الْفَائِدَةِ إلَى أَذْهَانِهِمْ، حَرِيصًا عَلَى
هِدَايَتِهِمْ، وَيُفَهِّمَ كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسْبِ فَهْمِهِ وَحِفْظِهِ؛ فَلَا
يُعْطِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَلَا يُقَصِّرُ بِهِ عَمَّا يَحْتَمِلُهُ بِلَا
مَشَقَّةٍ، وَيُخَاطِبُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ دَرَجَتِهِ، وَبِحَسْبِ
فَهْمِهِ وَهِمَّتِهِ؛ فَيَكْتَفِي بِالْإِشَارَةِ لِمَنْ يَفْهَمُهَا فَهْمًا
محققا ويوضع الْعِبَارَةَ لِغَيْرِهِ، وَيُكَرِّرُهَا لِمَنْ لَا يَحْفَظُهَا
إلَّا بِتَكْرَارٍ، وَيَذْكُرُ الْأَحْكَامَ مُوَضَّحَةً بِالْأَمْثِلَةِ مِنْ
غَيْرِ دَلِيلٍ لِمَنْ لَا يَنْحَفِظُ لَهُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ جَهِلَ دَلِيلَ
بَعْضِهَا ذَكَرَهُ لَهُ، وَيَذْكُرُ الدَّلَائِلَ لِمُحْتَمِلِهَا وَيَذْكُرُ
هَذَا مَا بَيَّنَّا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا يُشْبِهُهَا وَحُكْمُهُ
حُكْمُهَا وَمَا يُقَارِبُهَا، وهو مخالف لها وَيَذْكُرُ مَا يَرِدُ عَلَيْهَا
وَجَوَابَهُ إنْ أَمْكَنَهُ، وَيُبَيِّنُ الدَّلِيلَ الضَّعِيفَ لِئَلَّا
يُغْتَرَّ بِهِ، فَيَقُولُ: اسْتَدَلُّوا بِكَذَا وَهُوَ ضَعِيفٌ لِكَذَا،
وَيُبَيِّنُ الدَّلِيلَ الْمُعْتَمَدَ لِيُعْتَمَدَ، وَيُبَيِّنُ لَهُ مَا
يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأُصُولِ وَالْأَمْثَالِ وَالْأَشْعَارِ وَاللُّغَاتِ،
وَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى غَلَطِ مَنْ غَلِطَ فِيهَا مِنْ الْمُصَنَّفِينَ، فَيَقُولُ
مثلا: هذا هو الصواب، وأما مَا ذَكَرَهُ فُلَانٌ فَغَلَطٌ أَوْ فَضَعِيفٌ قَاصِدًا
النَّصِيحَةَ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ؛ لَا لِتَنَقُّصٍ لِلْمُصَنَّفِ.
* وَيُبَيِّنَ لَهُ جُمَلًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
وَيَنْضَبِطُ لَهُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَتَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ مِنْ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ
عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ.
* وَيُبَيِّنُ لَهُ أَنْوَاعَ الْأَقْيِسَةِ
وَدَرَجَاتِهَا وَكَيْفِيَّةَ اسْتِثْمَارِ الْأَدِلَّةِ: وَيُبَيِّنُ حَدَّ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ وَالْمُجْمَلَ وَالْمُبَيَّنَ
وَالنَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ عَلَى وُجُوهٍ، وَأَنَّهُ
عِنْدَ تَجَرُّدِهِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ،
وَأَنَّ اللَّفْظَ يُحْمَلُ عَلَى عمومه وحقيقته حتى يرد دَلِيلُ تَخْصِيصٍ
وَمَجَازٍ، وَأَنَّ أَقْسَامَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ خَمْسَةٌ: الْوُجُوبُ
وَالنَّدْبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ، وَيَنْقَسِمُ
بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إلَى: صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، فَالْوَاجِبُ: مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ
شَرْعًا، عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ احْتِرَازًا مِنْ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ
وَالْمُخَيَّرِ. وَقِيلَ: مَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ تَارِكُهُ فَهَذَانِ أَصَحُّ
مَا قِيلَ فِيهِ.
وَالْمَنْدُوبُ مَا رُجِّحَ فِعْلُهُ شَرْعًا وَجَازَ
تَرْكُهُ.
وَالْمُحَرَّمُ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ شَرْعًا.
وَالْمَكْرُوهُ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ نَهْيًا غَيْرَ
جَازِمٍ.
وَالْمُبَاحُ مَا جَاءَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ
بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ الْعُقُودِ مَا تَرَتَّبَ أَثَرُهُ
عَلَيْهِ، وَمِنْ الْعِبَادَاتِ مَا أَسْقَطَ الْقَضَاءَ.
وَالْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ خِلَافُ الصَّحِيحِ.
* وَيُبَيِّنُ لَهُ جُمَلًا مِنْ أَسْمَاءِ
الْمَشْهُورِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ فَمَنْ
بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَخْيَارِ وَأَنْسَابِهِمْ وَكُنَاهُمْ
وَأَعْصَارِهِمْ وَطَرَفِ حكاياتهم، ونوادرهم وضبط المشكل من أنسابهم وصفاتهم
وَتَمْيِيزِ الْمُشْتَبَهِ مِنْ ذَلِكَ، وَجُمَلًا مِنْ الْأَلْفَاظِ
اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ الْمُتَكَرِّرَةِ فِي الْفِقْهِ ضَبْطًا
لَمُشْكِلِهَا وَخَفِيِّ مَعَانِيهَا فَيَقُولُ: هِيَ مَفْتُوحَةٌ أَوْ
مَضْمُومَةٌ أو مكسورة، مخففة أو مشددة، مَهْمُوزَةٌ أَوْ لَا،
عَرَبِيَّةٌ أَوْ عَجَمِيَّةٌ أَوْ مُعَرَّبَةٌ وَهِيَ الَّتِي أَصْلُهَا عَجَمِيٌّ
وَتَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ، مَصْرُوفَةٌ أَوْ غَيْرُهَا، مُشْتَقَّةٌ أَمْ لَا،
مُشْتَرَكَةٌ أَمْ لَا، مُتَرَادِفَةٌ أَمْ لَا، وَأَنَّ الْمَهْمُوزَ
وَالْمُشَدَّدَ يُخَفَّفَانِ أَمْ لَا، وَأَنَّ فِيهَا لُغَةً أُخْرَى أَمْ لَا.
* وَيُبَيِّنُ مَا يَنْضَبِطُ مِنْ قَوَاعِدِ التَّصْرِيفِ
كَقَوْلِنَا: مَا كَانَ عَلَى "فَعِلَ" بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ
الْعَيْنِ فَمُضَارِعُهُ "يَفْعَلُ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ إلَّا أَحْرُفًا
جَاءَ فِيهِنَّ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمُعْتَلِّ،
فَالصَّحِيحُ دُونَ عَشَرَةِ أحرف كنعم وبئس وحسب، والمعتل كوتر وَوَبِقَ وَوَرِمَ
وَوَرِيَ الزَّنْدُ وَغَيْرِهِنَّ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ
وَالْأَفْعَالِ عَلَى "فَعِلَ" بِكَسْرِ الْعَيْنِ جَازَ فِيهِ أَيْضًا
إسْكَانُهَا مَعَ فَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا فَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَوْ
الثَّالِثُ حَرْفَ حَلْقٍ جَازَ فِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ "فَعَلٌ" بِكَسْرِ
الْفَاءِ وَالْعَيْنِ، وَإِذَا وَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ لطيفة أو مما يسئل
عَنْهَا فِي الْمُعَايَاتِ نَبَّهَهُ عَلَيْهَا وَعَرَّفَهُ حَالَهَا فِي كُلِّ
ذَلِكَ، وَيَكُونُ تَعْلِيمُهُ إيَّاهُمْ كُلَّ ذَلِكَ تَدْرِيجًا؛ شَيْئًا
فَشَيْئًا لِتَجْتَمِعَ لَهُمْ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ جمَلٌ كَثِيرَاتٌ.
* وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّضَهُمْ عَلَى الِاشْتِغَالِ فِي
كُلِّ وَقْتٍ وَيُطَالِبَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ بِإِعَادَةِ مَحْفُوظَاتِهِمْ وَيَسْأَلَهُمْ
عَمَّا ذَكَرَهُ لَهُمْ من المهمات؛ فمن وجده حافظه مُرَاعِيًا لَهُ أَكْرَمَهُ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَأَشَاعَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَخَفْ فَسَادَ حَالِهِ بِإِعْجَابٍ
وَنَحْوِهِ، وَمَنْ وَجَدَهُ مُقَصِّرًا عَنَّفَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ تنفيره
ويعيده حَتَّى يَحْفَظَهُ حِفْظًا رَاسِخًا وَيُنْصِفَهُمْ فِي الْبَحْثِ
فَيَعْتَرِفَ بِفَائِدَةٍ يَقُولُهَا بَعْضُهُمْ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَلَا
يَحْسُدُ أَحَدًا مِنْهُمْ لِكَثْرَةِ تَحْصِيلِهِ؛ فَالْحَسَدُ حرام للأجانب،
وهنا أشد فإنه بمنزلة الولد وَفَضِيلَتُهُ يَعُودُ إلَى مُعَلِّمِهِ مِنْهَا
نَصِيبٌ وَافِرٌ؛ فَإِنَّهُ مُرَبِّيهِ وَلَهُ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَخْرِيجِهِ فِي
الْآخِرَةِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَفِي الدُّنْيَا الدُّعَاءُ الْمُسْتَمِرُّ
وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ.
* وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ فِي تَعْلِيمِهِمْ إذا
ازدحموا الأسبق فالأسبق ولا يُقَدِّمُهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ دَرْسٍ إلَّا بِرِضَا
الْبَاقِينَ وَإِذَا ذَكَرَ لَهُمْ دَرْسًا تَحَرَّى تَفْهِيمَهُمْ بِأَيْسَرِ
الطُّرُقِ وَيَذْكُرَهُ مُتَرَسِّلًا مُبَيِّنًا وَاضِحًا، وَيُكَرِّرَ مَا
يُشْكِلُ مِنْ مَعَانِيهِ وَأَلْفَاظِهِ إلَّا إذَا وثق بأنّ جميع الحاضرين
يفهمونه بدون ذلك، وإذا لم يكمل الْبَيَانُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِعِبَارَةٍ
يُسْتَحَى فِي الْعَادَةِ مِنْ ذِكْرِهَا فَلْيَذْكُرْهَا بِصَرِيحِ اسْمِهَا
وَلَا يَمْنَعُهُ الحياء ومراعاة الأدب مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ إيضَاحَهَا أَهَمُّ
مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ الْكِنَايَةُ فِي مِثْلِ هَذَا إذَا عُلِمَ
بِهَا الْمَقْصُودُ عِلْمًا جَلِيًّا، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْمَلُ مَا
وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ التَّصْرِيحِ فِي وَقْتٍ وَالْكِنَايَةِ فِي وَقْتٍ.
وَيُؤَخِّرَ مَا يَنْبَغِي تَأْخِيرُهُ وَيُقَدِّمَ مَا
يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ، وَيَقِفَ فِي مَوْضِعِ الْوَقْفِ، وَيَصِلَ فِي مَوْضِعِ
الْوَصْلِ.
وَإِذَا وَصَلَ مَوْضِعَ الدَّرْسِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فإنْ
كان مسجدا تأكد الحديث عَلَى الصَّلَاةِ، وَيَقْعُدُ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ
عَلَى طَهَارَةٍ مُتَرَبِّعًا إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ مُحْتَبِيًا، وَغَيْرَ
ذَلِكَ، وَيَجْلِسُ بِوَقَارٍ وَثِيَابُهُ نَظِيفَةٌ بِيضٌ، وَلَا يَعْتَنِي
بِفَاخِرِ الثِّيَابِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى خُلُقٍ يُنْسَبُ صَاحِبُهُ إلَى قِلَّةِ
الْمُرُوءَةِ، وَيُحَسِّنُ خُلُقَهُ مَعَ جُلَسَائِهِ وَيُوَقِّرُ فَاضِلَهُمْ
بِعِلْمٍ أَوْ سِنٍّ أَوْ شَرَفٍ أَوْ صَلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَتَلَطَّفُ
بِالْبَاقِينَ وَيَرْفَعُ مَجْلِسَ الْفُضَلَاءِ وَيُكْرِمُهُمْ.
* وَيَنْبَغِي أَنْ يَصُونَ يَدَيْهِ عَنْ الْعَبَثِ،
وَعَيْنَيْهِ عَنْ تَفْرِيقِ النَّظَرِ بِلَا حَاجَةٍ، وَيَلْتَفِتَ إلَى
الْحَاضِرِينَ الْتِفَاتًا قَصْدًا بِحَسْبِ الْحَاجَةِ لِلْخِطَابِ، وَيَجْلِسَ
فِي مَوْضِعٍ يَبْرُزُ فِيهِ وَجْهُهُ لِكُلِّهِمْ، وَيُقَدِّمَ عَلَى الدَّرْسِ
تِلَاوَةَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يُبَسْمِلَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ
تَعَالَى وَيُصَلِّيَ وَيُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ، ثم يدعو للعلماء الماضيين مِنْ مَشَايِخِهِ
وَوَالِدَيْهِ وَالْحَاضِرِينَ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقُولَ: حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَضِلَّ أَوْ
أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أظلم وأجهل أَوْ يُجْهَلَ
عَلَيَّ، فَإِنْ ذَكَرَ دُرُوسًا قَدَّمَ أهمها فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الأصولين
ثُمَّ الْمَذْهَبَ ثُمَّ الْخِلَافَ ثُمَّ الْجَدَلَ. وَلَا يَذْكُرُ الدَّرْسَ
وَبِهِ مَا يُزْعِجُهُ كَمَرَضٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ مُدَافَعَةِ الْحَدَثِ أَوْ
شِدَّةِ فَرَحٍ وغم، وَلَا يُطَوِّلُ مَجْلِسَهُ تَطْوِيلًا يُمِلُّهُمْ أَوْ
يَمْنَعُهُمْ فَهْمَ بَعْضِ الدُّرُوسِ أَوْ ضَبْطِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
إفَادَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ؛ فَإِذَا صَارُوا إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَاتَهُ
الْمَقْصُودُ، وَلْيَكُنْ مَجْلِسُهُ وَاسِعًا، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ زِيَادَةً
عَلَى الْحَاجَةِ وَلَا يَخْفِضُهُ خَفْضًا يَمْنَعُ بَعْضَهُمْ كَمَالَ فَهْمِهِ،
وَيَصُونُ مَجْلِسَهُ مِنْ اللَّغَطِ وَالْحَاضِرِينَ عَنْ سُوءِ الْأَدَبِ فِي
الْمُبَاحَثَةِ، وإذا ظهر من أحدهم شيء مِنْ مَبَادِئِ ذَلِكَ تَلَطَّفَ فِي
دَفْعِهِ قَبْلَ انْتِشَارِهِ، وَيُذَكِّرُهُمْ أَنَّ اجْتِمَاعَنَا يَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلِيقُ بِنَا الْمُنَافَسَةُ
وَالْمُشَاحَنَةُ، بَلْ شَأْنُنَا الرِّفْقُ وَالصَّفَاءُ وَاسْتِفَادَةُ بَعْضِنَا مِنْ بَعْضٍ،
وَاجْتِمَاعُ قُلُوبِنَا عَلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَحُصُولِ الْفَائِدَةِ.
* وَإِذَا سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ أُعْجُوبَةٍ فَلَا يسخرون
منه، وإذا سئل عن شيء لَا يَعْرِفُهُ أَوْ عَرَضَ فِي الدَّرْسِ مَا لَا
يَعْرِفُهُ فَلْيَقُلْ: لَا أَعْرِفُهُ أَوْ لَا أَتَحَقَّقُهُ وَلَا يَسْتَنْكِفُ
عَنْ ذَلِكَ، فَمِنْ عِلْمِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ فِيمَا لَا يَعْلَمُ: لَا
أَعْلَمُ أَوْ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ
لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ
لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ r: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وما أنا من المتكلفين) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t: نهينا عن التكليف. رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
* وَقَالُوا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُوَرِّثَ
أَصْحَابَهُ: "لَا أَدْرِي"، مَعْنَاهُ يُكْثِرُ مِنْهَا،
وَلْيَعْلَمْ أَنَّ مُعْتَقَدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ قَوْلَ الْعَالِمِ: "لَا
أَدْرِي" لَا يَضَعُ مَنْزِلَتَهُ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ مَحَلِّهِ
وَتَقْوَاهُ وَكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَكِّنَ لَا يَضُرُّهُ عَدَمُ
مَعْرِفَتِهِ مَسَائِلَ مَعْدُودَةً، بَلْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ: لَا أَدْرِي
عَلَى تَقْوَاهُ وَأَنَّهُ لَا يُجَازِفُ فِي فَتْوَاهُ. وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ
مِنْ لَا أَدْرِي مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ وَقَصُرَتْ مَعْرِفَتُهُ وَضَعُفَتْ تَقْوَاهُ؛
لِأَنَّهُ يَخَافُ لِقُصُورِهِ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ الْحَاضِرِينَ وَهُوَ
جَهَالَةٌ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْجَوَابِ فِيمَا لَا
يَعْلَمُهُ يَبُوءُ بِالْإِثْمِ الْعَظِيمِ وَلَا يَرْفَعُهُ ذَلِكَ عَمَّا عرف له
من المقصور بل يستدل به على قصوره، لأنا إذَا رَأَيْنَا الْمُحَقِّقِينَ
يَقُولُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ: لَا أَدْرِي، وَهَذَا الْقَاصِرُ لَا
يَقُولُهَا أَبَدًا: عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَتَوَرَّعُونَ لِعِلْمِهِمْ
وَتَقْوَاهُمْ وَأَنَّهُ يجازف لجهله وقلة دينه، فوقع فيما فرَّ عنه وَاتَّصَفَ
بِمَا احْتَرَزَ مِنْهُ؛ لِفَسَادِ نِيَّتِهِ وَسُوءِ طَوِيَّتِهِ. وَفِي
الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُتَشَبِّعُ
بِمَا لَمْ يُعْطَ كلابس ثوبي زور.
فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ
يَطْرَحَ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا يَرَاهُ مِنْ مُسْتَفَادِ الْمَسَائِلِ
وَيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ أَفْهَامَهُمْ
وَيُظْهِرَ فَضْلَ الْفَاضِلِ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ تَرْغِيبًا لَهُ
وَلِلْبَاقِينَ فِي الِاشْتِغَالِ وَالْفِكْرِ فِي الْعِلْمِ، وَلِيَتَدَرَّبُوا
بِذَلِكَ وَيَعْتَادُوهُ، وَلَا يُعَنِّفُ مَنْ غَلِطَ مِنْهُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ
إلَّا أَنْ يَرَى تَعْنِيفَهُ مَصْلَحَةً لَهُ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ تَعْلِيمِهِمْ
أَوْ إلْقَاءِ دَرْسٍ عَلَيْهِمْ أَمَرَهُمْ بِإِعَادَتِهِ لِيُرَسِّخَ حِفْظَهُمْ
لَهُ، فَإِنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ شيء ما عاودوا الشيخ في إيضاحه.
*فَصْلٌ:
وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ أَلَّا يَتَأَذَّى مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ
إذَا قَرَأَ عَلَى غَيْرِهِ: وَهَذِهِ مُصِيبَةٌ
يُبْتَلَى بِهَا جَهَلَةُ الْمُعَلِّمِينَ لِغَبَاوَتِهِمْ وَفَسَادِ نِيَّتِهِمْ،
وَهُوَ مِنْ الدَّلَائِلِ الصَّرِيحَةِ عَلَى عَدَمِ إرَادَتِهِمْ بِالتَّعْلِيمِ
وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى الْكَرِيمِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عنه الإغلاظ فِي ذَلِكَ وَالتَّأْكِيدَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ: وَهَذَا
إذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ الْآخَرُ أَهْلًا؛ فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ
مُبْتَدِعًا أَوْ كَثِيرَ الْغَلَطِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلْيُحَذِّرْ مِنْ
الِاغْتِرَارِ بِهِ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ!
* بَابُ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ
أَمَّا آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ ودرسه
فكآداب المعلم: وقد أوضحناها. وَيَنْبَغِي أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنْ
الْأَدْنَاسِ لِيَصْلُحَ لقبول الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ، فَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r: إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ
صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ
القلب، وقالوا: تطييب القلب للعلم كتطيب الْأَرْضِ
لِلزِّرَاعَةِ
* وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْعَلَائِقَ الشَّاغِلَةَ
عَنْ كَمَالِ الِاجْتِهَادِ فِي التَّحْصِيلِ وَيَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنْ
الْقُوتِ وَيَصْبِرَ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى: لَا يَطْلُبُ أَحَدٌ هَذَا الْعِلْمَ بِالْمُلْكِ وَعِزِّ النَّفْسِ
فَيَفْلَحَ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذُلِّ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ
وَخِدْمَةِ الْعُلَمَاءِ أَفْلَحَ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يُدْرَكُ الْعِلْمُ
إلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى الذُّلِّ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَصْلُحُ طَلَبُ
الْعِلْمِ إلَّا لِمُفْلِسٍ، فَقِيلَ: وَلَا الْغَنِيُّ الْمُكَفَّى؟
فَقَالَ وَلَا الْغَنِيُّ الْمُكَفَّى. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ: لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ مَا يُرِيدُ حَتَّى يضربه
الفقر ويؤثره على كل شيء. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُسْتَعَانُ
عَلَى الفقه بجمع الهمّ، وَيُسْتَعَانُ عَلَى حَذْفِ الْعَلَائِقِ بِأَخْذِ
الْيَسِيرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَا يَزِدْ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْآجُرِّيُّ:
مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْفَاقَةِ وَرِثَ الْفَهْمَ.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْعِلْمِ
وَالْمُعَلِّمِ فَبِتَوَاضُعِهِ يَنَالُهُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّوَاضُعِ
مُطْلَقًا فَهُنَا أَوْلَى، وَقَدْ قَالُوا:
الْعِلْمُ حَرْبٌ لِلفتى الْمُتَعَالِي
كَالسَّيْلِ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ
الْعَالِي
وَيَنْقَادَ لِمُعَلِّمِهِ وَيُشَاوِرَهُ فِي أُمُورِهِ
وَيَأْتَمِرَ بِأَمْرِهِ كَمَا يَنْقَادُ الْمَرِيضُ لِطَبِيبٍ حَاذِقٍ نَاصِحٍ
وَهَذَا أَوْلَى لِتَفَاوُتِ مَرْتَبَتِهِمَا. قَالُوا: وَلَا يَأْخُذُ الْعِلْمَ
إلَّا مِمَّنْ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ وَظَهَرَتْ دِيَانَتُهُ وَتَحَقَّقَتْ
مَعْرِفَتُهُ وَاشْتَهَرَتْ صِيَانَتُهُ وَسِيَادَتُهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ
سِيرِينَ وَمَالِكٌ وَخَلَائِقُ مِنْ السَّلَفِ: هَذَا الْعِلْمُ دِينٌ
فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ، وَلَا يَكْفِي في أهليته
التَّعْلِيمِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الْعِلْمِ بَلْ يَنْبَغِي مع كثرة عِلْمِهِ
بِذَلِكَ الْفَنِّ كَوْنُهُ لَهُ مَعْرِفَةً فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِهِ مِنْ
الْفُنُونِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ، وَيَكُونُ لَهُ دُرْبَةٌ
وَدِينٌ وَخُلُقٌ جَمِيلٌ، وَذِهْنٌ صحيح واطلاع تام. قالوا: وَلَا تَأْخُذْ
الْعِلْمَ مِمَّنْ كَانَ أَخْذُهُ لَهُ مِنْ بُطُونِ الْكُتُبِ مِنْ غَيْرِ
قِرَاءَةٍ عَلَى شُيُوخٍ أَوْ شَيْخٍ حَاذِقٍ، فَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ إلَّا مِنْ
الْكُتُبِ يَقَعُ فِي التَّصْحِيفِ، وَيَكْثُرُ مِنْهُ الْغَلَطُ وَالتَّحْرِيفُ.
* وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ مُعَلِّمَهُ بِعَيْنِ
الِاحْتِرَامِ وَيَعْتَقِدَ كَمَالَ أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهُ عَلَى أكثر طبقته
فهو أقرب إلى انتفائه بِهِ وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي ذِهْنِهِ، وَقَدْ
كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا ذَهَبَ إلَى معلمه تصدق بشيء، وَقَالَ: اللَّهُمَّ
اُسْتُرْ عَيْبَ مُعَلِّمِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُنْتُ أَصْفَحُ الْوَرَقَةَ بَيْنَ
يَدَيْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ صَفْحًا رَفِيقًا هَيْبَةً لَهُ؛ لِئَلَّا
يَسْمَعَ وَقْعَهَا.
* وَقَالَ الرَّبِيعُ: وَاَللَّهِ مَا اجْتَرَأْتُ أَنْ
أَشْرَبَ الْمَاءَ وَالشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ إلَيَّ هَيْبَةً له. وقال حمدان
بن الأصفهاني: كنت عِنْدَ شَرِيكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَتَاهُ بَعْضُ أَوْلَادِ
الْمَهْدِيِّ فَاسْتَنَدَ إلَى الْحَائِطِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ فَلَمْ
يَلْتَفِتْ إلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا ثُمَّ عَادَ فَعَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ،
فَقَالَ: أَتَسْتَخِفُّ بِأَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ؟ فَقَالَ شَرِيكٌ: لَا،
وَلَكِنَّ الْعِلْمَ أَجَلُّ عِنْدَ الله تعالى من أن أضعه، فجثا عَلَى
رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ شَرِيكٌ: هَكَذَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ. وَعَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: مِنْ حَقِّ
الْعَالِمِ عَلَيْكَ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى الْقَوْمِ عَامَّةً وَتَخُصَّهُ
بِالتَّحِيَّةِ، وَأَنْ تَجْلِسَ أَمَامَهُ، وَلَا تُشِيرَنَّ عِنْدَهُ بِيَدِكَ،
وَلَا تَعْمِدَنَّ بِعَيْنِكَ غَيْرَهُ، وَلَا تَقُولَنَّ قَالَ فُلَانٌ خِلَافَ
قَوْلِهِ، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَلَا تُسَارَّ فِي مَجْلِسِهِ،
وَلَا تَأْخُذْ بِثَوْبِهِ، وَلَا تُلِحَّ عَلَيْهِ إذَا كَسَلَ، وَلَا تَشْبَعَ
مِنْ طُولِ صُحْبَتِهِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ كَالنَّخْلَةِ تَنْتَظِرُ متى يسقط عليك
منها شيء.
* ومن آداب المتعلم أن يتحرى رضا الْمُعَلِّمِ
وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ نَفْسِهِ وَلَا يَغْتَابَ عِنْدَهُ وَلَا يُفْشِيَ لَهُ
سِرًّا
وَأَنْ يَرُدَّ غَيْبَتَهُ إذَا
سَمِعَهَا، فَإِنْ عَجَزَ فَارَقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، وَأَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِ
بِغَيْرِ إذْنٍ، وَإِذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ قَدَّمُوا أَفْضَلَهُمْ وَأَسَنَّهُمْ،
وَأَنْ يَدْخُلَ كَامِلَ الْهَيْبَةِ فَارِغَ الْقَلْبِ مِنْ الشَّوَاغِلِ
مُتَطَهِّرًا مُتَنَظِّفًا بِسِوَاكٍ وَقَصِّ شَارِبٍ وَظُفْرٍ، وَإِزَالَةِ
كَرِيهِ رَائِحَةٍ، وَيُسَلِّمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ كُلِّهِمْ بِصَوْتٍ
يُسْمِعُهُمْ إسْمَاعًا مُحَقَّقًا، وَيَخُصَّ الشَّيْخَ بِزِيَادَةِ إكْرَامٍ،
وَكَذَلِكَ يُسَلِّمَ إذَا انْصَرَفَ، وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ
وَيَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ لَهُ
الشَّيْخُ أَوْ الْحَاضِرُونَ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّخَطِّي أَوْ يَعْلَمَ مِنْ
حَالِهِمْ إيثَارَ ذَلِكَ، وَلَا يُقِيمَ أَحَدًا مِنْ مَجْلِسِهِ، فَإِنْ آثَرَهُ
غَيْرُهُ بِمَجْلِسِهِ لَمْ يَأْخُذْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ
لِلْحَاضِرِينَ بِأَنْ يَقْرُبَ مِنْ الشَّيْخِ وَيُذَاكِرَهُ مُذَاكَرَةً
يَنْتَفِعُ الْحَاضِرُونَ بِهَا، وَلَا يَجْلِسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ إلَّا
لِضَرُورَةٍ، وَلَا بَيْنَ صَاحِبَيْنِ إلَّا بِرِضَاهُمَا، وَإِذَا فُسِحَ لَهُ
قَعَدَ وَضَمَّ نَفْسَهُ، وَيَحْرِصَ عَلَى الْقُرْبِ مِنْ الشَّيْخِ لِيَفْهَمَ
كَلَامَهُ فَهْمًا كَامِلًا بِلَا مَشَقَّةٍ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا
يَرْتَفِعَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى أَفْضَلَ مِنْهُ، وَيَتَأَدَّبَ مَعَ رُفْقَتِهِ
وَحَاضِرِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ تَأَدُّبَهُ مَعَهُمْ تَأَدُّبٌ مَعَ الشَّيْخِ
وَاحْتِرَامٌ لِمَجْلِسِهِ، وَيَقْعُدَ قَعْدَةَ الْمُتَعَلِّمِينَ لَا قَعْدَةَ
الْمُعَلِّمِينَ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ رَفْعًا بَلِيغًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ،
وَلَا يَضْحَكَ وَلَا يُكْثِرَ الْكَلَامَ بِلَا حَاجَةٍ، وَلَا يَعْبَثَ بِيَدِهِ
وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا يَلْتَفِتَ بِلَا حَاجَةٍ؛ بَلْ يُقْبِلُ عَلَى الشَّيْخِ
مُصْغِيًا إلَيْهِ، وَلَا يَسْبِقَهُ إلَى شَرْحِ مَسْأَلَةٍ أَوْ جَوَابِ سُؤَال
إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ حَالِ الشَّيْخِ إيثَارَ ذَلِكَ؛ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ
عَلَى فَضِيلَةِ الْمُتَعَلِّمِ، وَلَا يَقْرَأَ عليه في حال شغل قلب الشيخ وملله
وغمه ونعاسه واستيفازه وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ أَوْ يَمْنَعُهُ
استيفاء الشرح، ولا يسأله عن شيء فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ
حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُهُ، وَلَا يُلِحَّ فِي السُّؤَالِ إلْحَاحًا
مُضْجِرًا، وَيَغْتَنِمَ سُؤَالَهُ عِنْدَ طِيبِ نَفْسِهِ وَفَرَاغِهِ، وَيَتَلَطَّفَ
فِي سُؤَالِهِ.
وَيُحْسِنَ خِطَابَهُ وَلَا يَسْتَحِي مِنْ السُّؤَالِ
عَمَّا أُشْكِلَ عَلَيْهِ بَلْ يَسْتَوْضِحُهُ أَكْمَلَ اسْتِيضَاحٍ، فَمَنْ رَقَّ
وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ، وَمَنْ رَقَّ وَجْهُهُ عِنْدَ السُّؤَالِ ظَهَرَ
نَقْصُهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ.
وَإِذَا قَالَ له الشيح: أَفَهِمْتَ؟ فَلَا يَقُلْ: نَعَمْ
حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الْمَقْصُودُ إيضَاحًا جَلِيًّا لِئَلَّا يَكْذِبَ
وَيَفُوتَهُ الْفَهْمُ، وَلَا يَسْتَحِي مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ أَفْهَمْ؛ لِأَنَّ
اسْتِثْبَاتَهُ يُحَصِّلُ لَهُ مَصَالِحَ عَاجِلَةً وَآجِلَةً، فَمِنْ
الْعَاجِلَةِ: حِفْظُهُ الْمَسْأَلَةَ وَسَلَامَتُهُ مِنْ كَذِبٍ وَنِفَاقٍ؛
بِإِظْهَارِهِ فَهْمَ مَا لَمْ يَكُنْ فَهِمَهُ.
* وَمِنْهَا: اعْتِقَادُ الشَّيْخِ اعْتِنَاءَهُ
وَرَغْبَتَهُ وَكَمَالَ عَقْلِهِ وَوَرَعَهُ وَمِلْكَهُ لِنَفْسِهِ وَعَدَمَ
نِفَاقِهِ.
وَمِنْ الْآجِلَةِ:
ثُبُوتُ الصَّوَابِ فِي قَلْبِهِ دَائِمًا، وَاعْتِيَادُهُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ
الْمُرْضِيَةَ وَالْأَخْلَاقَ الرَّضِيَّةَ.
وَعَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْزِلَةُ
الْجَهْلِ بَيْنَ الْحَيَاءِ وَالْأَنَفَةِ.
وَيَنْبَغِي إذَا سَمِعَ الشَّيْخَ يَقُولُ: مَسْأَلَةً
أَوْ يَحْكِي حِكَايَةً وَهُوَ يَحْفَظُهَا أَنْ يُصْغِيَ لَهَا إصْغَاءَ مَنْ
لَمْ يَحْفَظْهَا، إلَّا إذَا عَلِمَ مِنْ حَالِ الشَّيْخِ إيثَارَهُ عِلْمَهِ
بِأَنَّ الْمُتَعَلِّمَ حافظها.
وينبغي أن يكون حريصا على التعليم مُوَاظِبًا عَلَيْهِ فِي
جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا حضرا وسفرا، وَلَا يُذْهِبُ مِنْ
أَوْقَاتِهِ شَيْئًا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِأَكْلٍ
وَنَوْمٍ قَدْرًا لا بد منه ونحوهما؛ كاستراحة يسيرة لإزالة الْمَلَلِ وَشِبْهِ
ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ، وَلَيْسَ بِعَاقِلٍ مَنْ أَمْكَنَهُ دَرَجَةُ
وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ فَوَّتَهَا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي رِسَالَتِهِ: حَقٌّ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بُلُوغُ غَايَةِ
جُهْدِهِمْ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ عِلْمِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى كُلِّ عَارِضٍ
دُونَ طَلَبِهِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي إدْرَاكِ عِلْمِهِ
نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا، وَالرَّغْبَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَوْنِ
عَلَيْهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ
قَالَ: لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَجْوَدُ أَوْقَاتِ
الْحِفْظِ الْأَسْحَارُ، ثُمَّ نِصْفُ النَّهَارِ ثُمَّ الْغَدَاةُ. وَحِفْظُ
اللَّيْلِ أَنْفَعُ مِنْ حِفْظِ النَّهَارِ، وَوَقْتُ الْجُوعِ أَنْفَعُ مِنْ
وَقْتِ الشِّبَعِ، قَالَ: وَأَجْوَدُ أَمَاكِنِ الْحِفْظِ الْغُرَفُ وَكُلُّ
مَوْضِعٍ بَعُدَ عن الملهيات، قال: وَلَيْسَ بِمَحْمُودٍ الْحِفْظُ بِحَضْرَةِ
النَّبَاتِ وَالْخُضْرَةِ وَالْأَنْهَارِ، وَقَوَارِعِ الطُّرُقِ؛ لِأَنَّهَا
تَمْنَعُ غَالِبًا خُلُوَّ الْقَلْبِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفْوَةِ
شَيْخِهِ وَسُوءِ خُلُقِهِ، وَلَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ
وَاعْتِقَادِ كماله، ويتأول لأفعاله الَّتِي ظَاهِرُهَا الْفَسَادُ تَأْوِيلَاتٍ
صَحِيحَةً فَمَا يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا قَلِيلُ التَّوْفِيقِ، وَإِذَا
جَفَاهُ الشَّيْخُ ابْتَدَأَ هُوَ بِالِاعْتِذَارِ وَأَظْهَرَ أَنَّ الذَّنْبَ
لَهُ وَالْعَتْبَ عَلَيْهِ؛ فَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ دِينًا وَدُنْيَا وَأَبْقَى
لِقَلْبِ شَيْخِهِ، وَقَدْ قَالُوا: مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذُلِّ
التَّعَلُّمِ بَقِيَ عُمُرَهُ في عَمَايَةِ الْجَهَالَةِ،
وَمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ آلَ أَمْرُهُ إلى عز الآخرة وَالدُّنْيَا.
* وَمِنْ آدَابِهِ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ وَأَنْ
يَكُونَ هِمَّتُهُ عَالِيَةً فَلَا يَرْضَى بِالْيَسِيرِ مع إمكان كثير، وَأَنْ
لَا يُسَوِّفَ فِي اشْتِغَالِهِ وَلَا يُؤَخِّرُ تَحْصِيلَ فَائِدَةٍ وَإِنْ
قَلَّتْ؛ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَإِنْ أَمِنَ حُصُولَهَا بَعْدَ سَاعَةٍ؛
لِأَنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفات، ولأنه فِي الزَّمَنِ الثَّانِي يُحَصِّلُ غَيْرَهَا.
وَعَنْ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمْ أَرَ الشَّافِعِيَّ آكِلًا بِنَهَارٍ وَلَا نائما
بليل لاهتمامه بِالتَّصْنِيفِ، وَلَا يُحَمِّلُ نَفْسَهُ مَا لَا تُطِيقُ
مَخَافَةَ الْمَلَلِ. وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ. وَإِذَا جَاءَ
مَجْلِسَ الشَّيْخِ فَلَمْ يَجِدْهُ انْتَظَرَهُ وَلَا يُفَوِّتُ دَرْسَهُ إلَّا
أَنْ يَخَافَ كَرَاهَةَ الشَّيْخِ لِذَلِكَ؛ بِأَنْ يَعْلَمَ مِنْ حَالِهِ
الْإِقْرَاءَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يَشُقَّ عَلَيْهِ بِطَلَبِ الْقِرَاءَةِ
فِي غَيْرِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَإِذَا وَجَدَهُ نَائِمًا لَا يَسْتَأْذِنُ
عَلَيْهِ بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ أَوْ يَنْصَرِفُ، وَالِاخْتِيَارُ
الصَّبْرُ كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسَّلَفُ يَفْعَلُونَ، وَيَنْبَغِي أَنْ
يَغْتَنِمَ التَّحْصِيلَ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ وَحَالِ الشَّبَابِ
وَقُوَّةِ البدن ونباهة الخاطر وَقِلَّةِ الشَّوَاغِلِ قَبْلَ عَوَارِضِ
الْبَطَالَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَنْزِلَةِ، فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
تَفَقَّهْ قَبْلَ أَنْ تَرْأَسَ؛ فَإِذَا رَأَسْتَ فَلَا سَبِيلَ إلَى
التَّفَقُّهِ، وَيَعْتَنِيَ بِتَصْحِيحِ دَرْسِهِ الَّذِي يَتَحَفَّظُهُ
تَصْحِيحًا مُتْقَنًا عَلَى الشَّيْخِ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ حِفْظًا محكما، ثم بعد
حفظه يُكَرِّرُهُ مَرَّاتٍ لِيَرْسَخَ رُسُوخًا مُتَأَكَّدًا، ثُمَّ يُرَاعِيه بحيث
لا يزال محفوظا جيدا. ويبتدأ دَرْسَهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالدُّعَاءِ لِلْعُلَمَاءِ وَمَشَايِخِهِ
وَوَالِدَيْهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُبَكِّرُ بِدَرْسِهِ، لِحَدِيثِ: اللَّهُمَّ
بَارِكْ لأمتي فِي بُكُورِهَا، وَيُدَاوِمُ عَلَى تَكْرَارِ مَحْفُوظَاتِهِ،
وَلَا يَحْفَظُ ابْتِدَاءً مِنْ الْكُتُبِ اسْتِقْلَالًا بَلْ يُصَحِّحُ عَلَى
الشَّيْخِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَالِاسْتِقْلَالُ بِذَلِكَ مِنْ أَضَرِّ الْمَفَاسِدِ،
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ
تَفَقَّهَ مِنْ الْكُتُبِ ضَيَّعَ الْأَحْكَامَ، وَلْيُذَاكِرْ
بِمَحْفُوظَاتِهِ وَلْيُدِمْ الْفِكْرَ فِيهَا وَيَعْتَنِي بِمَا يُحَصِّلُ فِيهَا
مِنْ الْفَوَائِدِ، وَلْيُرَافِقْ بَعْضَ حَاضِرِي حَلْقَةِ الشَّيْخِ فِي
الْمُذَاكَرَةِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَفْضَلُ الْمُذَاكَرَةِ مُذَاكَرَةُ
اللَّيْلِ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ السلف يفعلون ذلك، وكان جماعة منهم يبدءون
من العشاء؛ فَرُبَّمَا لَمْ يَقُومُوا حَتَّى يَسْمَعُوا أَذَانَ الصُّبْحِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ مِنْ دُرُوسِهِ عَلَى
الْمَشَايِخِ، وَفِي الْحِفْظِ وَالتَّكْرَارِ وَالْمُطَالَعَةِ بِالْأَهَمِّ
فَالْأَهَمِّ، وَأَوَّلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ: حِفْظُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ
فَهُوَ أَهَمُّ الْعُلُومِ، وَكَانَ السَّلَفُ لَا يُعَلِّمُونَ الْحَدِيثَ والفقه
إلا لمن حفظ الْقُرْآنَ، وَإِذَا حَفِظَهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْهُ
بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمَا اشْتِغَالًا يُؤَدِّي إلَى نِسْيَانِ شيء
مِنْهُ أَوْ تَعْرِيضِهِ لِلنِّسْيَانِ. وَبَعْدَ حِفْظِ الْقُرْآنِ يَحْفَظُ مِنْ
كُلِّ فَنٍّ مُخْتَصَرًا، وَيَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ، وَمِنْ أَهَمِّهَا: الْفِقْهُ
وَالنَّحْوُ ثُمَّ الْحَدِيثُ وَالْأُصُولُ ثُمَّ الْبَاقِي عَلَى مَا تَيَسَّرَ،
ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِاسْتِشْرَاحِ مَحْفُوظَاتِهِ، وَيَعْتَمِدُ مِنْ الشُّيُوخِ
فِي كُلِّ فن أكملهم فِي الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ شَرْحُ دُرُوسٍ
فِي كُلِّ يَوْمٍ فَعَلَ، وَإِلَّا اقْتَصَرَ عَلَى الْمُمْكِنِ مِنْ دَرْسَيْنِ
أَوْ ثَلَاثَةٍ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا اعْتَمَدَ شَيْخًا فِي فَنٍّ وَكَانَ لَا
يَتَأَذَّى بِقِرَاءَةِ ذَلِكَ الْفَنِّ عَلَى غَيْرِهِ فَلْيَقْرَأْ أَيْضًا
عَلَى ثَانٍ وَثَالِثٍ وَأَكْثَرَ مَا لَمْ يَتَأَذَّوْا؛ فإنْ تأذّ الْمُعْتَمَدُ
اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَرَاعَى قَلْبَهُ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى انْتِفَاعِهِ. وَقَدْ
قَدَّمْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي
أَنْ لَا يَتَأَذَّى مِنْ هَذَا، وَإِذَا بَحَثَ
الْمُخْتَصَرَاتِ انْتَقَلَ إلَى بَحْثٍ أَكْبَرَ مِنْهَا مَعَ الْمُطَالَعَةِ
الْمُتْقَنَةِ وَالْعِنَايَةِ الدَّائِمَةِ الْمُحْكَمَةِ، وَتَعْلِيقِ مَا
يَرَاهُ مِنْ النَّفَائِسِ وَالْغَرَائِبِ وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ؛ مِمَّا يَرَاهُ
فِي الْمُطَالَعَةِ أَوْ يَسْمَعُهُ مِنْ الشَّيْخِ، وَلَا يَحْتَقِرَنَّ
فَائِدَةً يَرَاهَا أَوْ يَسْمَعُهَا فِي أَيِّ فَنٍّ كَانَتْ، بَلْ يُبَادِرُ
إلَى كِتَابَتِهَا، ثُمَّ يُوَاظِبُ عَلَى مُطَالَعَةِ مَا كَتَبَهُ،
وَلْيُلَازِمْ حَلْقَةَ الشَّيْخِ، وَلْيَعْتَنِ بِكُلِّ الدُّرُوسِ وَيُعَلِّقْ
عَلَيْهَا مَا أَمْكَنَ؛ فَإِنْ عَجَزَ اعْتَنَى بِالْأَهَمِّ وَلَا يُؤْثِرُ
بِنَوْبَتِهِ؛ فَإِنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ رَأَى الشَّيْخُ
الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ في وقت فأشار به امْتَثَلَ أَمَرَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ
يُرْشِدَ رُفْقَتَهُ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الطَّلَبَةِ إلَى مَوَاطِنِ الِاشْتِغَالِ
وَالْفَائِدَةِ، وَيَذْكُرَ لَهُمْ مَا اسْتَفَادَهُ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ
وَالْمُذَاكَرَةِ وبإرشادهم يُبَارَكْ لَهُ فِي عِلْمِهِ وَيَسْتَنِيرُ قَلْبُهُ
وَتَتَأَكَّدُ الْمَسَائِلُ مَعَهُ مَعَ جَزِيلِ ثَوَابِ اللَّهِ عَزَّ وجل. ومن بَخِلَ
بِذَلِكَ كَانَ بِضِدِّهِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَهُ وَإِنْ ثَبَتَ لَمْ يُثْمِرْ.
وَلَا يَحْسُدُ أَحَدًا وَلَا يَحْتَقِرُهُ وَلَا يَعْجَبُ بِفَهْمِهِ.
* فَإِذَا فَعَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَتَكَامَلَتْ
أَهْلِيَّتُهُ وَاشْتَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ اشْتَغَلَ بِالتَّصْنِيفِ وَجَدَّ فِي
الْجَمْعِ وَالتَّأْلِيفِ مُحَقِّقًا كُلَّ مَا يَذْكُرُهُ مُتَثَبِّتًا فِي
نَقْلِهِ وَاسْتِنْبَاطِهِ، مُتَحَرِّيًا إيضَاحَ العبارات وبيان المشكلات مجتنبا
الْعِبَارَاتِ الرَّكِيكَاتِ، وَالْأَدِلَّةَ الْوَاهِيَاتِ، مُسْتَوْعِبًا
مُعْظَمَ أَحْكَامِ ذلك الفن غير مخل بشيء مِنْ أُصُولِهِ، مُنَبِّهًا عَلَى
الْقَوَاعِدِ؛ فَبِذَلِكَ تَظْهَرُ لَهُ الْحَقَائِقُ وَتَنْكَشِفُ الْمُشْكِلَاتُ،
وَيَطَّلِعُ عَلَى الْغَوَامِضِ وَحَلِّ الْمُعْضِلَاتِ، وَيَعْرِفُ مَذَاهِبَ
الْعُلَمَاءِ، وَالرَّاجِحَ مِنْ الْمَرْجُوحِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْ الْجُمُودِ
عَلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ، وَيَلْتَحِقُ بِالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ
يُقَارِبُهُمْ إنْ وُفِّقَ لِذَلِكَ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ!
* فَصْلٌ فِي آدَابٍ يَشْتَرِكُ فِيهَا
الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ
يَنْبَغِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَنْ لَا يُخِلَّ بِوَظِيفَتِهِ لِعُرُوضِ مَرَضٍ خَفِيفٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا
يُمْكِنُ مَعَهُ الِاشْتِغَالُ، وَيَسْتَشْفِي بِالْعِلْمِ، ولا يسأل أَحَدًا
تَعَنُّتًا وَتَعْجِيزًا؛ فَالسَّائِلُ تَعَنُّتًا وَتَعْجِيزًا لَا يستحق جوابا، وفي
الحديث النَّهْي عَنْ غُلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ، وَأَنْ يَعْتَنِيَ بِتَحْصِيلِ الْكُتُبِ
شِرَاءً وَاسْتِعَارَةً، وَلَا يَشْتَغِلُ بِنَسْخِهَا إنْ حَصَلَتْ بِالشِّرَاءِ؛
لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ أَهَمُّ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ الشِّرَاءُ لِعَدَمِ
الثَّمَنِ أَوْ لِعَدَمِ الْكِتَابِ؛ مَعَ نَفَاسَتِهِ فَيَسْتَنْسِخَهُ وَإِلَّا
فَلْيَنْسَخْهُ.
وَلَا يَهْتَمُ بتحسين الخط بل بتصحيحه، ولا يرتضى مَعَ
إمْكَانِ تَحْصِيلِهِ مِلْكًا، فَإِنْ اسْتَعَارَهُ لَمْ يُبْطِئْ بِهِ لِئَلَّا
يُفَوِّتَ الِانْتِفَاعَ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ وَلِئَلَّا يَكْسَلَ عَنْ
تَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ مِنْهُ، ولئلا يمتنع من إعَارَتِهِ غَيْرَهُ، وَقَدْ جَاءَ
فِي ذَمِّ الْإِبْطَاءِ بِرَدِّ الْكُتُبِ الْمُسْتَعَارَةِ عَنْ السَّلَفِ
أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ نَثْرًا وَنَظْمًا؛ وَرَوَيْنَاهَا فِي كِتَابِ الْخَطِيبِ (الْجَامِعُ
لأخلاق الرَّاوِي وَالسَّامِعِ)، مِنْهَا: عَنْ الزُّهْرِيِّ: إيَّاكَ
وَغُلُولَ الْكُتُبِ وَهُوَ حَبْسُهَا عَنْ أَصْحَابِهَا. وَعَنْ الْفُضَيْلِ:
لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْوَرَعِ وَلَا مِنْ أَفْعَالِ الْحُكَمَاءِ
أَنْ يَأْخُذَ سَمَاعَ رَجُلٍ وَكِتَابَهُ فَيَحْبِسَهُ عَنْهُ، وَمَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نفسه.
قال الْخَطِيبُ: وَبِسَبَبِ حَبْسِهَا امْتَنَعَ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ إعارتها، ثم روى في ذلك.
انتهى المقصود من تلخيص هذه الأبواب،
وقِف عليها إنْ شئت كاملة (في المجلد الأول
/ صحيفة 18-40 ، من كتاب المجموع
شرح المهذب، للمؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ، نشر
دار الفكر)، ((مع تكملة السبكي والمطيعي)).
هذا،
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
No comments:
Post a Comment