المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم
العالي
الجامعة
الإسلامية
المدينة
المنورة
مادة الفرق
السنة المنهجية
بقسم العقيدة
كلية الدعوة وأصول
الدين.
التعريف
بأهل السنة والجماعة (الفرقة الناجية والطائفة المنصورة)
1.
التعريف بها وذكر أسمائها
وألقابها، ووجه التسمية بكل منه:
أ-
أهل السنة ـ تعريف السنة ـ ومتى
يكون المرْءُ من أهلها؟
- أهل الجماعة/ أو الجماعة.
- أهل الحديث والأثر.
- الطائفة المنصورة.
- الفرقة الناجية.
- السلف، والسلفية، وبيان صحة هذا الوصف وجواز الانتساب والاعتزاء
إليه، والرد على من أنكر ذلك.
ب- رد الألقاب الباطلة التي ينبُزُهم بها مخالفوهم،
وبيان أنه لا يلحق أهل السنة شيء منها.
2 . بيان أنهم هم أهل السنة على التحقيق، لتجريدهم المتابعة لسنة
المصطفى صلى الله عليه وسلم قولاً واعتقاداً وعملاً.
جمعه
الطالب: أبو بكر حمزة زكريا
بأمر
الشيخ سليمان السحيمي ـ حفظه الله تعالى.
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله فاوَتَ بين خلقه الجن والإنس هدايةً
وإضلالاً، عدْلاً من ربنا الكريم ورحمةً منه وإفضالاً، أحمده تعالى وهو بالحمد
أهل، وأستلهمه رشدي، وأستعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، فـ[ـاللهم ربّ جبريل
وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة أنت تحكم بين
عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من
تشاء إلى صراطٍ مستقيم] وأصلي وسلّم على خير البرية، وأزكى البشرية القائل: [
افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة،
وستفترق أمتي ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة ]، وبعد: فكما ظهر في
صفحة الغلاف المطلوبُ التحضيرُ فيه، وأنه من باب التقدمة لدراسة علم الفرق([1]) ؛ إذْ (
الضد يظهر حسنَه الضدُّ * * * وبضدها تتميّز الأشياء . وهذا المنهج منهج ربانيّ
كما في الآيات الكثيرة ومنها قوله تعالى: ﴿ وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل
المجرمين﴾، وقوله﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن
سبيله ﴾ وقد ظهر هذا المنهج في أحاديث كثيرة منها حديث الافتراق؛ حيث ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم منهج الفرقة الواحدة الناجية بعد ذكره افتراق أمته ـ أمة
الإجابة ـ على ثلاث وسبعين فرقة، وكحديث [ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور]،
وفي هذا من الفوائد كثيرٌ لو يتأمل فيه الواحد، ومن أبرز ذلك وأوضحه: أنه به لا
بغيره ـ أعني: الجمعَ بين صراط الله وسبل الشيطان ـ يتضح السبيل لذي عينين، فيكون
من شاء الله توفيقه على الطريقة الواضحة الغراء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا
هالك، ويكون الثاني هالكاً عن بيّنةٍ كما قال الله تعالى: ﴿ ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيا من حيّ عن بيّنةٍ﴾،
وتستنبط من الجمع فوائد لو يحصل التأمل. وقد رأيت أن أشيد إلى كتبٍ ثلاثة تناولت
هذا الموضوع بشيء من البسط استفدت منها وهي كلها حديثةٌ، ـ أما من الكتب القديمة
فاستفدت أكثر ما استفدتُه بالمجموع لابن تيمية رحمه الله تعالى ـ أولها:
المباحث
العقدية في حديث افتراق الأمم للباحث سردار، فهو المصدر الأصيلي ـ في نظري ـ
للباحث عن الفِرق في الكتب الحديثة المؤصلة درايةً ورواية ـ الثاني: موقف أهل
السنة من أهل الأهواء والبدع لشيخنا الشيخ إبراهيم بن عامر ـ حفظه الله ـ وفيه
البيان عن ألقاب أهل السنة في مبحث له مؤصلٌ، الثالث الأخير: كتاب بعنوان: السلفية
وقضايا العصر للدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام
بن سعود ـ وكتابه جدّ جميل في موضوعه :(السلفية والسلفيون).
التعريف بالسنة لغة واصطلاحا والتعريف بأهل
السنة
أولاً: تعريف السنة لغة واصطلاحاً:
السنة في اللغة: هي الطريقة والسيرة، وقد اختلف
علماء اللغة هل (السنة) مقصورة في اللغة على الطريقة الحميدة أم أنها تتعدى إلى
أبعد من ذلك فتكون: عامة في الطريقة، سواء كانت محمودة أو مذمومة. قال الأزهري:
السنة: الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل: فلان من أهل السنة، معناه: من أهل
الطريقة المستقيمة المحمودة. وقال ابن منظور: السنة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة.
قال الشاعر:
فلا تجزعنْ من سيرةٍ أنت سرتها
|
فأول راض سنة من يَسيرها
|
وفي التنزيل﴿ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭼ الكهف ٥٥ وقال الزجاج: سنة الأولين) أنهم عاينوا العذاب، فطلب المشركون أن قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. وفي الحديث: (( من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها))، والصحيح هو القول الثاني ـ وهو أن السنة في اللغة عامة للطريقة الحسنة والسيئة ـ وهو قول ابن منظور، وشيخنا الشيخ إبراهيم ناقشه استدلاله بالآية على أن السنة هنا هي السنة المذمومة ([2]) وأوضح أنه لا يصح أن يقال في سنة الله أنها قبيحة، بل ذلك من أبطل الباطل، تعالى الله من أن تكون أفعاله قبيحة.
فإذا
تقرر أن السنة في اللغة هي الطريقة ـ سواء كانت حسنة أو قبيحة ـ فالذي يفرق بينهما
يعرف من السياق بالإضافة أو بالوصف، مثال الأول: كأن تضاف إلى الله أو رسله فيعرف
بذلك أنها حسنة كما في قول الله تعالى: (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد
لسنتنا تحويلا)، ومثال الثاني: [ من سن سنة حسنة]. وكذلك إن أضيفت إلى مذموم أو
وصفت فهي في هذه الحالة طريقة مذمومة، فمثال الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم:
[ لتتبعن سنن من كان قبلكم... ] وفيه أنه سئل: اليهود والنصارى قال: [ فمن؟]،
ومثال الثاني: [ ومن سن سنة سيئة]([3]) .
أما
تعريف السنة في الاصطلاح: ففي اصطلاح المحدثين
هي: ما أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من قول أو فعلٍ أو تقريرٍ أوصفةٍ خَلقيةٍ
أو خُلُقية أو سيرة، سواء كان قبل البعثة أو بعدها ([4])
وفي اصطلاح الأصوليين تطلق السنة على
" ما جاء منقولاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم على الخصوص مما لم يُنصَّ
عليه في الكتاب العزيز بل نُصّ عليه من جهته عليه الصلاة والسلام، كان بياناً لما
في الكتاب أو لا " ([5]) وفي
اصطلاح الفقهاء كل مل ثبت من أحكام الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم مما
ليس بفرض ولا واجب. وعرفها فقهاء المالكية: بأنها ما واظب عليه الرسول صلى الله
عليه وسلم مع ترك ما بلا عذر، وأظهره في جماعة. وتطلق السنة على أعمّ من ذلك:
كما في مقابلة البدعة؛ وذلك بعد أنْ نشأت البِدع والأهواء بعد العصور المفضلة.
وهذا إطلاق علماء السنة حيث عرّفوها بقولهم: (( هي كل ما ثبت بالدليل الشرعي، أو
ما دلّ عليه الدليل الشرعي، سواء كان قرآناً أو حديثاً أو من القواعد الشرعية
العامة))، أو ((هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتقاداً
واقتصاداٍ، وقولاً وعملاٍ))، وهذه هي السنة الكاملة، الموافق لما ورد عن
المتقدميين كالحسن وابن جبير وغيرهما، وإن كان كثير من العلماء المتأخرين عنهم
يخصها بما يتعلق بالاعتقادات؛ وعلى هذا جاءت كتب السنة للخلال والمروزي والبربهاري
وشروحها. ويستعملونها كثيرا في مثل قولهم: (هذا من السنة، أو فلان من أهل السنة). وتطلق
ـ كذلك ـ على ما عمل به الصحابة رضوان الله عليهم، سواء كان ذلك في القرآن
أم في الحديث أم باجتهاد منهم كجمع المصحف، وتدوين الدواوين، وحمل الناس على
القراءة بحرفٍ واحدٍ من الحروف السبعة، والشاهد على ذلك حديث العرباض بن سارية رضي
الله عنه مرفوعاً [ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها
بالنواجذ]، ويقابل الإطلاقين الأخيرين: البدعة. فأعم تلك الاصطلاحات: اصطلاح
المحدثين([6]) .
هذه جملة من اصطلاحات العلماء للفظة ((السنة))، كلٌ بحسبه، والشاهد هنا: إطلاق (السنة)
بمقابل (البدعة)، وإطلاق: (أهل السنة) بمقابل (أهل التفرق والبدعة). ثم يأتي
التعريف بأهل السنة.
ثانياً:
التعريف بأهل السنة:
قال
الشيخ إبراهيم: "القصد من التعريف بأهل السنة: تعريفهم في المقام الأول حتى
لا ينسب إليهم خارج عنهم، ولا يخرج منهم داخل فيهم"، ثم ذكر أهم الأسس التي
يقوم عليها منهجهم ويتميّز بها عن مناهج المخالفين لهم في العقيدة.
تعريف أهل السنة:
قال ابن حزمٍ: (( وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق ومن عداهم فأهل
البدعة فإنهم الصحابة رضي الله عنهم وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمه الله عليهم
ثم أصحاب الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلا إلى يومنا هذا، أو من اقتدى بهم
من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم )) ([7]) ويقول
ابن الجوزي: ((ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله، وآثار أصحابه
هم أهل السنة؛ لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث وإنما وقعت الحوادث والبدع
بعد رسول الله وأصحابه )) ([8]) ...قال شيخ الإسلام: ((ولا
ريب أنهم ـ يعني بهم: الرافضة ـ أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة؛ ولهذا كانوا
هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السنى إلا الرافضي،
فإذا قال أحدهم: أنا سني فإنما معناه لست رافضياً))([9]) وقال أيضاً: (( فلفظ أهل السنة يراد به: من أثبت
خلافة الخلفاء الثلاثة؛ فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به: أهل الحديث
والسنة المحضة؛ فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول: إن القرآن غير مخلوق،
وإن الله يُرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث
والسنة)) ([10]) . ويقول أيضاً: ((فمن
قال فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة)) ([11]) ... إلى أن قال: وما
أجمل ما قاله الإمام عبد الله بن المبارك فيما نقله عنه الإمام البربهاري في تحديد
ضابط صاحب السنة، حيث قال: (( أصل اثنين وسبعين هوى، أربعة أهواء: فمن هذه الأربعة
الأهواء تشعبت الاثنان وسبعون هوى: القدرية، والمرجئة، والشيعة، والخوارج؛ فمن قدّم
أبا بكر وعمر وعثمان وعلياًّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في
الباقين إلا بخير، ودعا لهم فقد خرج من التشيّع أوّلِه وآخرِه، ومن قال: الإيمان قولٌ
وعملٌ يزيد وينقص فقد خرج من الإرجاء أوله وآخره، ومن قال: الصلاة خلف كل بَرٍّ وفاجرٍ،
والجهاد مع كل خليفة، ولم يرَ الخروج على السلطان بالسيف، ودعا لهم بالصلاح فقد خرج
من قول الخوارج أوله وآخره، ومن قال: المقادير كلُّها من الله عز وجل خيرها وشرها،
يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فقد خرج من قول القدرية أوله وآخره، وهو صاحب سنة )) ([12]) . فيما سبق من النقولات
تحديد وتعريف بأهل السنة.
ثم قال: (( أهل الإسلام ليس لهم اسمٌ ولا لقبٌ يعرفون به
إلا الإسلام، وما دلّ عليه)) وقال في شرحه لهذا العنوان: (( أهل السنة والجماعة
يفارقون أهل البدع، ويتميّزون عنهم في أنهم ليس لهم اسمٌ يعرفون به، ولا لقبٌ، أو
رمزٌ، يميّزهم عن غيرهم إلا الإسلام وما دلّ عليه. ولا ينتمون لشخصٍ بالغاً ما
بلغ، يجعلونه قدوتهم في كلّ شيءٍ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أورد تحت هذا العنوان نقولاتٍ سلفيةٍ تدل على
ذلك ، ومنها: أنه قال: قال الإمام مالك: (( أهل السنة ليس لهم لقب يعرفون به، ولا
جهمي ولا قدري، ولا رافضي )) وقد كان السلف يحذّرون من التسمّي بغير الإسلام،
ويشدّدون في ذلك؛ فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: (( من أقرّ باسمٍ من هذه
الأسماء المحدثة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) وقال ميمون بن مهران: (( إياكم
وكل اسم يسمى بغير الإسلام)) وقال مالك بن مِغْول: (( إذا تسمّى الرجل بغير الإسلام
والسنة فألحقه بأيّ دينٍ شئت)) ... إلى أن قال: (( ويقول الإمام ابن القيّم رحمه الله عند حديثه عن
علامات أهل العبودية: " العلامة الثانية: قوله (( ولم ينسبوا إلى اسمٍ) أي:
لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء التي صارت أعلاماً لأهل الطريق.
وأيضاً فلم يتقيّدوا بعملٍ واحد يجري عليهم اسمُه، فيعرفون به دون غيره من
الأعمال، فإن هذا آفة العبودية. وهي عبودية مقيّدة. وأما العبودية المطلقة: فلا
يعرف صاحبها باسمٍ معيّن من معاني أسمائها، فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها،
فاه مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم، فلا يتقيّد لا برسمٍ ولا إشارة ولا اسم،
ولا بزيّ، ولا طريقٍ وضعيٍّ اصطلاحيٍّ. بلْ إنْ سُئل عن شيخه؟ قال: الرسول. وعن طريقه؟
قال: الاتباع. ... وقد سئل بعض الأئمة عن السنة فقال مالا اسم له سوى السنة، يعني:
أن أهل السنة ليس لهم اسم ُيُنْسبُون إليه سواها )) ([13]) وما ذلك لأنهم؛ الأصل، والأصل
لا يحتاج إلى سمةٍ خاصةٍ تميّزه، وإنما الذي يحتاج إلى اسم معيّنٍ هو الخارج من
هذا الأصل من تلكم الجماعات التي انشقت من الأصل ([14]) . وقد اختتم الشيخ إبراهيم
هذا العنوان بذكر كلام الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ـ رحمه الله ـ الذي سطّره
تحت عنوان: ( لا طائفية ولا حزبية يُعقد الولاء والبراء عليها) وهو كلام نفيس في
التحذير من تلك الجماعات
أسماء أهل السنة:
يقول شيخنا الشيخ إبراهيم: " لما نشأ ت
البدع في الإسلام، وتعددت فِرق الضلال، وأخذ كل واحدٍ يدعو إلى بدعته وهواه، ـ مع
انتسابهم في الظاهر إلى الإسلام ـ لا بد لهل الحق وأصحاب العقيدة الصحيحة التي ترك
النبي صلى الله عليه وسلم الأمة عليها، من غير أن تشوبها شائبةٌ، أو تدخل عليها
داخلةٌ من هوى أو ابتداعٍ أن يعرفوا بأسماء تميّزهم عن أهل الابتداع والانحراف في
هذه العقيدة، فظهرت حين ذلك أسمائهم الشرعية المستمدة من الإسلام. فمن أسمائهم:
أهل السنة والجماعة ـ الفِرفة الناجية ـ الطائفة المنصورة ـ السلف.
وما اشتهر لأهل السنة من
هذه الأسماء لا ينافي ما سبق تقريره من أنهم ليس لهم اسم أو لقب يعرفون به إلا
الإسلام؛ لأن هذه الأسماء دالة على الإسلام. لكن لما انتسب إلى الإسلام من لم
يحققه التحقيق الصحيح من أهل البدع ظهرت هذه التسميات للتفرقة بين أهل التحقيق
الصحيح للإسلام، وهم أهل السنة، وبين من انحرف عنه. ومن تأمل هذه الأسماء ( أسماء
أهل السنة) ظهر له أنها كلها تدل على الإسلام؛ فبعضها ثابتٌ لهم بالنص من الرسول
صلى الله عليه وسلم، والبعض الآخر إنما حصل لهم بفضل تحقيقهم للإسلام تحقيقاً
صحيحاً. وهي تخالف تماماً مسميات أهل البدع وألقابهم؛ فأسماء أهل البدع وألقابهم:
إما ترجع إلى الانتساب لأشخاصٍ؛ كالجهمية، نسبة إلى الجهم بن صفوان، والزيدية نسبة
إلى زيد بن علي بن الحسين، ... وإما على ألقاب مشتقة من أصل بدعهم: كالرافضة؛
لرفضهم زيد بن علي، أو لرفضهم إمامة الشيخين، والنواصب؛ لنصبهم العداء لأهل البيت
... وإما أن هذه الألقاب ترجع إلى سبب خروج من تسمى بها عن عقيدة المسلمين
وجماعتهم؛ كالخوارج لخروجهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والمعتزلة؛ لاعتزال رئيسهم ( واصل بن عطاء) مجلس الحسن البصري. فأين هذه الأسماء
والألقاب من أسماء أهل السنة المستمدة من الإسلام؟([15]) ثم نقل ستة وجوه عن
الشيخ بكر رحمه الله تبيّن أن ألقاب أهل السنة تختلف عن أسماء وألقاب أهل الأهواء
والفرق الضالة.
ثم قال: " وبعد أن ظهرت مغايرة أسماء أهل
السنة وألقابهم لكل مسميات وألقاب أهل البدع نشرع في عرض أسماء أهل السنة، عرضاً
موجزاً، لبيان معنى كلّ اسمٍ، والأدلة على شرعيته، وانتمائه إلى الإسلام:.
أهل السنة:
أهل السنة مركباً له إطلاقان عام وخاص؛ أما الإطلاق
العام، فمقابل الرافضة كما مرّ، وأن جميع الفرق داخلة فيه عدا الروافض. وأما
الخاص؛ ما في مقابل أهل البدع عموماً، ولا يدخل غلا من أثبت الأصول المعروفة عند
أهل السنة والجماعة في المعتقد والعمل ([16]).
متى يكون المرء من أهل السنة؟
وفي ص751 تحت مطلب: معرفة منهج
الفرقة الواحدة الناجية، والتمسك به" الذي تفرّع عن مبحثٍ بعنوان: "
الموقف الصحيح إزاء هذه الفرق" قال الباحث ـ حفظه الله تعالى ـ " وبيّن
العلماء الطريقة العامة التي يعرف بها منهج الفرقة الناجية: قال أبو الحسين
ـ وذلك في كتابه الغالي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ـ رحمه الله:
" ولا أرى للبيب ما هو أفضل من لزوم ما بين الدفتين والإكثار من النظر
في تأويله ولزوم السنة والجماعة ودع عنك العوج ولم وكيف فما أمرت به وإنما خلقك الله
لعبادته وأنزل إليك نورا مبينا وأرسل إليك رسولا كريما فاتبع نوره وما سن لك نبيه عليه
الصلاة والسلام فما عدا هذين فهو ضلال واستقم كما أمرت وكن لله مطيعا إن الأهواء مالت
بأهلها فأوردتهم عذابا أليما
ومن بعض ما أدلك عليه أن تعلم
أن الله عز وجل أرسل محمدا فبلغ الرسالة ولم يكتم شيئا وبين وأرشد وقد نهاك القرآن
والرسول عن الشبهات والجدال ولا تتأول القرآن على رأيك والله عز وجل يقول في كتابه
منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ثم قال والراسخون في العلم
يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ثم علمنا الاستعاذة كيف
يقول فقال ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا
إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ثم الصديق أبو بكر رضي الله
عنه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم وأرضاهم
وهم القدوة والسادة والأعلام والحجة فهل سمعت عنهم إلا التحذير عن البدع والمحدثات
ونقل عنهم أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ... فاحذر يا أخي واعلم أنك بمنظر من اللطيف
الخبير ولم أضع كتابي هذا إلا ليكون إماما وأصلا أرجع إليه ومعقلا لي وللمؤمنين إن
شاء الله فخذ ما آتيتك فيه وتمسك بجميعه فإنه وما فيه من أصل وحجة مذهب من سلف من مصابيح
الهدى والصدر الأول وأهل البصائر والعلم والكتاب والسنة " ([17]) وقال ابن حزم ـ
رحمه الله ـ " فإن قال قائل فإذ لا بد من مواقعة الاختلاف فكيف التخلص من هذا الذم
الوارد في المختلفين قيل له وبالله تعالى التوفيق قد علمنا الله تعالى الطريق في ذلك
ولم يدعنا في لبس وله الحمد فقال تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما فتبعوه ولا تتبعوا
لسبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } وقال تعالى { واعتصموا بحبل لله
جميعا ولا تفرقوا وذكروا نعمة لله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخوانا وكنتم على شفا حفرة من لنار فأنقذكم منها كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تهتدون
} وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن
تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن
تأويلا } فإذا وردت الأقوال فاتبع كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم الذي
هو بيان عما أمرنا الله تعالى به وما أجمع عليه جميع المسلمين فهذا هو صراط الله تعالى
وحبله الذي إذا تمسكت به أخرجك من الفرقة المذمومة ومن الاختلاف المكروه إن كنت تؤمن
بالله واليوم الآخر ـ كما قال الله تعالى ـ " ([18]) . وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله وسنة خلفائه
الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما تنازعت
فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل، وإلا استمسك بالجمل الثابتة
بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا... والواجب أمر العامة بالجمل
الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف
" ([19])
فاشتملت هذه النصوص على أسس معرفة منهج الفرقة
الناجية، والتمسك به، وهي:
1.
اتباع الكتاب والسنة ـ مع كامل القبول والتسليم
والانقياد ـ .
2.
اتباع ما أجمع عليه الصحابة الكرام ـ رضي الله
عنهم ـ وفي مقدمتهم: الخلفاء الراشدون،
وأئمة الإسلام.
3.
تجنب ما سوى ذلك من البدع والمحدثات والأهواء.
4.
أنّ من كان من أهل البصيرة والعلم فلا بأس أن
ينظر فيما تنازع فيه الناس ليصل إلى الحق، وأما من لم يكن كذلك فليس له إلا أن
يتمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع.
الجماعة:
قال الشيخ إبراهيم: " أما تسمية أهل السنة
بـ(ـالجماعة)؛ فهذه التسمية ثابتة لهم بالنص من رسول الله صلى الله عليه وسلم
..." ([21]) فأورد حديث معاوية وحديث أنس رضي الله عنهما
قال
محمد أرزقي في كتابه النفي في باب صفات الله عز وجل: فلقد اقترن هذا اللفظ بـ(ـالسنة)
فأصبح علماً لأهل الحق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((... فإن السنة
مقرونة بالجماعة، كما أن البدعة مقرونة بالفرقة، فيقال: أهل السنة والجماعة، كما
يقال: أهل البدعة والفرقة)) وقد ورد في أحاديث عدة، منها حديث ابن عباس رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ فإنه من فارق الجماعة قيد شبرٍ فمات
...]([22]) ... ثم إن كلاً من الشيخ الرحيلي ومحمد أرزقي
أورد خمسة أقوال للعلماء التي أوردها الشاطبي ـ رحمه الله في معنى الجماعة، رأيت
تصوير ذلك لاشتماله على فوائد، وقد أضاف الشيخ محمد القول السادس نقله عن
البربهاري في معنى الجماعة، وهو: أنها جماعة الحق وأهله.
أقول: من
أسماء الفرقة الناجية كذلك (( الجماعة)) مفردة أو معطوفة على (( أهل السنة))
فيقال: (( أهل السنة والجماعة)) فقد مرّ شيء عن اللقب (( أهل السنة)) وأن الذين
بقوا على الأصل وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أولى به من بقية
الفرق الذين يدّعون ذلك دون أن يثبتوا بيّنة (( الاتباع))، وأما عن (( الجماعة))
الذي جاء في حديث الافتراق فإن العلماء ذكروا ستة معانٍ كلها تصدق مجتمعة في ((
أهل السنة)) ابتداءً بالصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم
الدين دون غيرهم من جانبوا الصواب وافترقوا وابتدعوا. وعلى رأس من شرح هذا
الحديث من العلماء الشاطبي في الاعتصام؛ وهو نفسُه بعد بيانه معنى (الجماعة) بذكر الأقوال
الخمسة للعلماء قال ما يدل على أنها كلها تصدق لأهل السنة دون غيرهم.
قال ـ رحمه الله:
(( فاختلف الناس في معنى الجماعة
المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال:
اختلف الناس في معنى الجماعة
المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال
أحدها : أنها السواد الأعظم
أحدها : إنها السواد الأعظم
من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبي غالب : إن السواد الأعظم هم الناجون من
الفرق فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ومن خالفهم مات ميتة جاهلية سواء خالفهم
في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم فهو مخالف للحق
وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري
وابن مسعود فروى أنه لما قتل عثمان سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة فقال : عليك بالجماعة
فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة واصبر حتى تستريح أو
يستراح من فاجر وقال : إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة وقال ابن مسعود بالسمع والطاعة
فإنها حبل الله الذي أمر به ثم قبض يده وقال : إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين
تحبون في الفرقة
وعن الحسين قيل له : أبو بكر
خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أي والذي لا إله إلا هو ما كان الله ليجمع
أمة محمد على ضلالة
فعلى هذا القول يدخل في الجماعة
مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم
تابعون لهم ومقتدون بهم فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل
في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة لم يدخلوا في سوادهم بحال
الثاني أنها جماعة أئمة العلماء
المجتهدين
والثاني : إنها جماعة أئمة
العلماء المجتهدين فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية لأن جماعة الله العلماء
جعلهم الله حجة على العالمين وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام : [ إن الله لن
يجمع أمتي على ضلالة ] وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع من النوازل وهي
تبع لها فمعنى قوله : [ لن تجتمع أمتي ] لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة
وممن قال بهذا عبد الله بن
المبارك و إسحاق بن راهوية وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين فقيل ل عبد الله بن المبارك
: من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدي بهم ؟ قال : أبو بكر وعمر ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى
إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ـ فقيل : هؤلاء ماتوا : فمن الأحياء ؟ قال أبو حمزة
السكري
وعن المسيب بن رافع قال :
كانوا إذ جاءهم شيء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله سموه صوافي الأمراء
فجمعوا له أهل العلم فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق وعن إسحاق بن راهوية نحو مما قال
ابن المبارك
فعلى هذا القول لا مدخل في
السؤال لمن ليس بعالم مجتهد لأنه داخل في أهل التقليد فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو
صاحب الميتة الجاهلية ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين لأن العالم أولا لا يبتدع وإنما
يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله
وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع وإن قيل بالاعتداد به فيه ففي
غير مسألة التي ابتدع فيها لأنهم في نفس البدعة مخالفون للإجماع : فعلى كل تقدير لا
يدخلون في السواد الأعظم رأسا
الثالث: أن الجماعة هي الصحابة رضي
الله عنهم على الخصوص
والثالث : إن الجماعة هي الصحابة
على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده وهم الذين لا يجتمعون على
ضلالة أصلا وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ألا ترى قوله عليه لا صلاة والسلام : [ ولا تقوم
الساعة على أحد يقول : الله الله ] وقوله : [ لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ]
فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر قالوا
وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز فروى ابن وهب عن مالك قال : كان عمر بن عبد
العزيز يقول : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاه الأمر من بعده سننا الأخذ بها
تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها
ولا النظر فيها ! من اهتدى بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خافها اتبع غير سبيل
المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا فقال مالك : فأعجبني عزم عمر
على ذلك
فعلى هذا القول فلفظ الجماعة
مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام : [ ما أنا عليه وأصحابي ] فكأنه
راجع إلى ما قالوه وما سنوه وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق وبشهادة رسول الله صلى
الله عليه وسلم لهم بذلك خصوصا في قوله : [ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ] وأشباهه
أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة المهتدون للشريعة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي
من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيرهم : فإذا كل
ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه بخلاف غيرهم فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا للنظر ردا
وقبولا فأهل البدع إذا غير داخلين في الجماعة قطعا على هذا القول
الرابع: أن الجماعة هي جماعة أهل
الإسلام
والرابع : إن الجماعة هي جماعة
أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم وهم الذين ضمن
لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة فإن وقع بينهم اختلاف فواجب تعرف
الصواب فيما اختلفوا فيه
قال الشافعي : الجماعة لا
تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ولا سنة ولا قياس وإنما تكون الغفلة في الفرقة
وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني
وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر وفيه من المعنى ما في
الأول من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول
بدعة أصلا فهم ـ إذا ـ الفرقة الناجية
والخامس : ما اختاره الطبري
الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة والسلام
بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم لأن فراقهم لا يعدو إحدى
حالتين إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب بل
بالتأويل في إحداث بدعة في
الدين كالحرورية التي أمرت
الأمة بقتالها وسماها النبي صلى الله عليه وسلم مارقة من الدين وإما لطلب إمارة من
انعقاد البيعة لأمير الجماعة فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه
وقد قال صلى الله عليه وسلم
: [ من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان ] قال الطبري : فهذا
معنى الأمر بلزوم الجماعة
قال : وأما الجماعة التي إذا
اجتمعت على الرضى بتقديم أمير كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية فهي الجماعة التي وصفها
أبو مسعود الأنصاري وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم وهم السواد
الأعظم
قال : وقد بين ذلك عمر بن
الخطاب رضي الله عنه فروي عن عمر بن ميمون الأودي قال : قال عمر حين طعن لصهيب : صل
بالناس ثلاثا وليدخل علي عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وليدخل ابن عمر
في جانب البيت وليس له من الأمر شيء فقم يا صهيب على رؤوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص
واحد فاجلد رأسه بالسيف وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رأسيهما حتى يستوثقوا على
رجل
قال : فالجماعة التي أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة إلي أوجب
عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف فهم في معنى
كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم
قال : وأما الخبر الذي ذكر
فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من
أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه وذلك لا يكون في الأمة
هذا تمام كلامه وهو منقول
بالمعنى و تحر في أكثر اللفظ
وحاصله : أن الجماعة راجعة
إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة
خارج عن معنى الجماعة المذكور في الأحاديث المذكورة كالخوارج ومن جرى مجراهم
فهذه خمسة أقوال دائرة على
اعتبار أهل السنة والاتباع وأنهم المرادون بالأحاديث فلنأخذ ذلك أصلا ويبني عليه معنى
آخر وهي
المسألة السابعة عشرة أن الجميع
اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا
وذلك أن الجميع اتفقوا على
اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال
أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم فمن شذ عنهم فمات
فميتته جاهلية وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة فلا بد
من رجوعهم في دينهم إلى العلماء فإنهم لو تمالئوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم
لكانوا هو الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر لقلة العلماء وكثرة الجهال فلا يقول
أحد : إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون
في الحديث بل الأمر بالعكس وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا والعوام هو المفارقون
للجماعة إن خالفوا فإن وافقوا فهو الواجب عليهم
ومن هنا لما سئل ابن المبارك
عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال : أبو بكر وعمر ـ قال ـ فلم يزل يحسب حتى
انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد قيل : فهؤلاء ماتوا ! فمن الأحياء ؟ قال :
أبو حمزة السكري وهو محمد بن ميمون المروزي فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني
بإطلاق وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ولا عد
سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية بل يتنزل
النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي
يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد
وأيضا فاتباع نظر من لا نظر
له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ورمي في عماية وهو مقتضى الحديث الصحيح :
[ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ] الحديث
روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم
الطوسي قال : سمعت إسحاق بن راهوية وذكر في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قال :
[ إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة فإذا رأيتم
الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ] فقال رجل يا أبا يعقوب ! من السواد الأعظم ؟ فقال
محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ثم قال : سأل رجل ابن المبارك : من السواد الأعظم ؟
قال : أبو حمزة السكري ثم قال إسحاق : في ذلك الزمان ( يعني أبا حمزة ) وفي زماننا
محمد بن أسلم ومن تبعه ثم قال إسحاق : لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا : جماعة
الناس ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه فمن
كان معه وتبعه فهو الجماعة ثم قال إسحاق : لم أسمع عالما منذ خمسين سنة كان أشد تمسكا
بأثر النبي صلى الله عليه وسلم من محمد بن أسلم
فانظر في حكايته تتبين غلط
من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم وهو وهم العوام لا فهم العلماء
فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ولا توفيق إلا بالله)) ([24]).
والباحث سردار تكلم عن الجماعة من ص903 ـ 905 من
رسالته. وعن (أهل السنة والجماعة) كلقب: من ص 945 ـ953 .
طريقة أهل السنة:
من طريقة أهل السنة التمسك بها وبما كان عليه
السابقون الأولون:
قال شيخ الإسلام في بيان طريقة أهل السنة وأنه التمسك بها
وبالكتاب والإجماع، وذكر ـ كذلك ـ سبب تسميتهم بأهل الجماعة:
(( ثم من طريقة أهل السنة والجماعة إتباع آثار رسول
الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا وإتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار
واتباع وصية رسول الله حيث قال: [عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة
ضلالة]. ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم،
ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدى محمد على هدى كل
أحد، وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة. وسـمُّـوا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع،
وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين، والإجماع هو
الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين. وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع
ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنةٍ أو ظاهرةٍ مما له تعلق بالدين، والإجماع الذي
ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثُر الاختلاف، وانتشرت الأمة)).([25]) وقال في موضع آخر ((وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب
والسنة، ويطيعون الله ورسوله؛ فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق)) ([26])
أصحاب الحديث والأثر:
يقول محمد أرزقي في كتابه النفي في باب صفات
الله عز وجل: " والمراد بهم : المشتغلون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وآثار الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، تمييزاً وفهماً، وعملاً واحتجاجاً،
رواية ودرايةً، قال شيخ الإسلام رحمه الله : (( ونحن لا نعني بأهل الحديث:
المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه،
ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً، واتباعه باطناً وظاهراً، وكذلك أهل القرآن، وأدنى
خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث، والبحث عنهما، وعن معانيهما، والعمل بما علموه
من موجبهما))([27]) . وأحال إلى المجموع 3/
347، و4/ 95. وقد تكلم عنها الباحث سردار من ص954 970 من رسالته.
الفرقة الناجية:
يقول الشيخ إبراهيم:
" هذا اللقب مأخوذ من مفهوم حديث افتراق الأمة السابق: حيث نصّ النبي صلى
الله عليه وسلم على أن كل الفرق في النار إلا واحدة في الجنة، فأطلق من هذا المعنى
على هذه الفرقة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها في الجنة ( الفرقة
الناجية)" وذكر أنه يفهم من كلام بعض
العلماء أن ذلك مأخوذ من منطوق الحديث لا مفهومه. وقال الشيخ الأرزقي: " الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة: وهو مشتق من الأحاديث الواردة في بيان فضل المتمسكين بالحق من
هذه الأمة، ومنها" ... فأورد عدة أحاديث. ([28]) وانظر عنها (المباحث العقدية من حديث افتراق
الأمم) ص906 ـ 921 .
الفرقة الناجية والاعتراض
على شيخ الإسلام بعد قراءته الواسطية أمام الأمير والمتكلمين:
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (( وكان مجموع
ما اعترض به المنازعون المعاندون بعد انقضاء قراءة جميعها والبحث فيها عن أربعة أسئلة؛
الأول: قولنا: ومن أصول الفرقة الناجية: أن الإيمان والدين قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص،
قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح،
قالوا: فإذا قيل: إن هذا من
أصول الفرقة الناجية؛ خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك؛ مثل أصحابنا المتكلمين
الذين يقولون: إن الإيمان: هو التصديق، ومن يقول: الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا
لم يكونوا من الناجين، لزم أن يكونوا هالكين.
وأما الأسئلة الثلاثة ...)) ([29])
فقد
أجاب رحمه الله تعالى عن إيراداتهم الأربعة كما في قوله: ((فأجبتهم عن الأسئلة بأن
قولي: اعتقاد الفرقة الناجية؛ هي: الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة؛
حيث قال: [تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة،
وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي]. فهذا الاعتقاد هو المأثور
عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وهم ومن اتبعهم: الفرقة الناجية؛
فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص، وكل ما ذكرته في
ذلك؛ فإنه مأثورٌ عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم
لم يضر في ذلك. ثم قلت لهم: وليس كل من خالف
في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً؛ فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر
الله خطأَه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له
من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن
يدخل فيها المتأول، والقانت، وذو الحسنات الماحية، والمغفور له، وغير ذلك فهذا أولى؛
بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضدّه فقد يكون
ناجياً، وقد لا يكون ناجياً، كما يقال: من صمت نجا ...)) ([30])
الطائفة المنصورة:
يقول الشيخ إبراهيم: " قد دل عل استحقاق أهل السنة لهذه
التسمية قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روا عنه معاوية بن قرة عن أبيه: أنه
قال: [ لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة] ...
وهذه الطائفة المنصورة هم أهل السنة كما نصّ على ذلك الأئمة: قال البخاري: "
هم أهل العلم" وقال أحمد بن حنبل: " إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري
من هم!" قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد: أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب
أهل الحديث" ...([31])
السلفيون:
من أسماء أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية:
السلفيون، وقد رأيت أن أذكر عن سردار فقط ـ لتطويل حصل مني ـ ثم أحيل إلى ما قاله
غيره إحالةً، والمطلوب هو تعريف السلف والسلفية، وجواز صحة وجواز الانتساب
والاعتزاء إلى ذلك، والرد على من أنكر ذلك.
المعنى
اللغوي للسلف:
قال الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنَيْدي
في كتابه (السلفية وقضايا العصر) في معجم مقاييس اللغة قال ابن فارس: ((
السين واللام والفاء أصلٌ يدل على تقدّم وسبق)) وقال في لسان العرب: (( السلف:
الجماعة المتقدمون .. في السير أو في السن أو في الفضل أو في الموت))، ((والسلف
أيضاً: العمل المتقدم من الإنسان)) و((السلفي) هو: المنسوب أو المنتسب للسلف؛ لأن
الياء هذه ياء النسبة، فالسلفي هو الذي ينسب نفسه، أو ينسبه غيره للجماعة
المتقدمين، ولا بد من علة لهذه النسبة. هذه العلة العلة ليست سوى تتحققه ـ أو زعمه
التحقق ـ بجانب السبق الذي صار به أولئك سلفاً، تقدم به على الخلف معه في السير أو
حيازة الفضل، الذي كان السابقون به سلفاً، ونحو ذلك. أما (( السلفية)): فهي نسبة
مؤنثة للسلف كالسلفي للذكر. لكن للسلفية وجهاً آخر، وهو كونها تتضمن معنى معيّنا
هو خاصية السبق عند الجماعة المتقدمين: السلف سيراً أو سناً أو فضلاً أو غيره. ...
السلف في التراث الإسلامي:
حينما نبحث في التراث الإسلامي عن ((السلف))
بصفتهم الجماعة السابقين لغيرهم بشيء ما، وعن (( السلفية)) بصفتها المعنى الذي سبق
به السابقون، سيتححد بحثنا في ((سبقٍ وسابقين)) على مستوى الأمة الإسلامية كلها
عبر تاريخها، ومن خلال قيمها العليا. هنا سنجد أن السلف هو: الصدر الأول من
المسلمين في هذه الأمة، وفي قمتهم أصحاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وسنجد أن
السلفية هي المعنى الإسلامي الذي تمثلوه في قلوبهم فهماً، وفي شخصياتهم سلوكاً.
والسلفي: هو الحامل للمعنى الذي حملوه مفاهيم وسلوكا. هذا المضمون للسلفية من حيث
هي التمثّل الأول لمفاهيم الإسلام وتطبيق مطالبه، ومن حيث كونُه وجهة يهفو إليها
الناس، برز مبكّراً حينما وجّه إليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، والسلفية
لما تزل تتحقق في الواقع البشري في حديث التفرق الذي قال فيه الرسول[ إن بني
إسرائيل على ثنتين وسبعين ملة... إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من
كان على ما أنا عليه وأصحابي)) كما وجه ابن مسعود رضي الله عنه إلى التزام السلفية
بمضمونها المذكور بقوله: " من كان منكم مستناً، فليستنّ بمن قد مات، فإن
الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أبر هذه
الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلّها تكلفاً".
أما بروز التسمية (( أتباع السلف))، أو ما
يرادفها أحياناً (أهل السنة والجماعة) في العصر العباسي مع ظهور الفتنة العقدية
على المستوى السياسي، بروزها بصفتها اتجاهاً متميّزاً؛ فلأنه ظهرت اتجاهات عقدية
فكرية في بلاد المسلمين، وصار لها سطوة في البيئة الإسلامية، فكان لا بد من تميز
الملتزمين بمنهجية الإسلام الصحيحة بين هذه الاتجاهات، وقد كانت لا هذه المنهجية
قبل ذلك هي السائدة، وما يحدث خلافاً لها إنما هي شذوذات فكرية فردية. ... ومن هنا
فإنّ اعتبار السلفية ظاهرة عباسية نشأت نتيجة عجز العامة (الجمهور) عن مواكبة
الفكر العقلاني لدى الفلاسفة والمتكلمين الذي شاع في العصر العباسي؛ ووقوف مداركهم
عند النصوص ـ الشرعية ـ الواضحة البسيطة؛ حيث انبعثت من الجمهور قياداته التي تتخذ
من العودة إلى النصوص وفهمها من خلال آثار الصحابة موقفاً مضاداً للتيارات
العقلانية. هذا التصوّر ـ وهو أن السلفية إنما حدثت في ظلّ دولة بني العباس مضادةً
للتيارات الفكرية الجديدة ـ غيرُ صحيح؛ لأن السلفية بصفتها منهجاً لفهم الإسلام،
والتزامه، تمثّلت في جيل الصحابة بصورتها الأنقى؛ ولهذا كانت الدعوة إلى السلفية
دعوة إلى الرجوع لذلك المنهج؛ ولأن الدعوة إلى السلفية، أي:إلى منهج صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم نادى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ونادى بها علماء
الصحابة أنفسهم وتابعوهم قبل العصر العباسي ([32]).
مفهوم
السلفية في الفكر العربي المعاصر:
يتفاوت المفكرون العرب المعاصرون في التصوّرات
التي يقدّمونها عن السلفية؛
فمفهوم السلفية عند بعضهم ـ
وهؤلاء هم المنتسبون إليها ـ: هو الاتجاه الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم
بإحسان، والأئمة الأربعة، ومن سلك منهجهم، دون من انحرف إلى مسلك مبتدعٍ كالخوارج
والروافض والمرجئة والجهمية والمعتزلة. وهي موافقة الرأي للكتاب والسنة وروحهما،
فمن خالفهما فليس بـ(ـسلفيٍّ)، إن عاش في عهد الصحابة الذين بهم ابتدأت السلفية
منهجاً. ويفصّل القرَضاوي في مفهوم السلفية: فالسلف هم أهل القرون الأولى خير قرون
هذه الأمة وأقربها إلى تمثيل الإسلام فهماً وإيماناً وسلوكاً والتزاماً. والسلفية
الرجوع إلى ما كان عليه السلف الأول في فهم الدين عقيدة وشريعة وسلوكاً. والرجوع إلى
فهمهم للعقيدة في سهولتها ونقائها، بعيداً عن جدل المتكلمين، وأباطيل
القبوريين، وإلى فهمهم للعبادة في صفائها وخلوصها، بعيداً عن
العبادات الشكلية أو المبتدعة، وإلى فهمهم للأخلاق في تكاملها
وقوّتها، بعيداً عن شوائب التصوّف الأعجمي، وإلى فهمهم للشريعة في
مرونتها، وسعة آفاقها، بعيداً عن جمود الحرفيين، وتقليد المتعصّبين، وإلى فهمهم
للحياة وثبات سنَنها، وقيامها
على العلم والعمل، بعيداً عن أخْيِلة الحالمين، وأفكار السطحيين، وإلى فهمهم للإنسان
باعتباره خليفة في الأرض، مكرَّماً بالعقل، مخاطباً بالتكليف. ولعله يلحظ في تشريح
القرضاوي لعناصر الفهم السلفي حضورُ الضد المخالف في كلِ عنصرٍ. ... وأما الدكتور
راجح الكردي ـ في كتابه: الاتجاه السلفي بين الأصالة والمعاصرة ـ يفصّل تلك
المفاهيم المدمجة في تعريف السلفية ـ حينما يحددها من خلال معانٍ ثلاثة:
سلفية زمانية: تطلق على المجموعة المتقدمة من
أمة الإسلام، الصحابة وتابعيهم بإحسانٍ وتابعي تابعيهم من أهل القرون المفضلة،
المشهود لها بالفضل في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
سلفية منهجية: حيث كان لهؤلاء المتقدمين منهجٌ
في فهم الإسلام، وكان هو المنهج الوحيد، ثم وجدت فهومٌ أخرى نتيجة دخول الأعاجم في
الإسلام، ودخول الفلسفة .. إلخ، ومن ثم أصبحت السلفية علامة التزام نهج الصحابة
وتابعيهم في فهم الإسلام، دون الفهوم المحدثة، فكلّ من التزم هذا المنهج، فهو
سلفيٌّ مهما تقدمت العصور.
سلفية مضمون: المنهج السلفي في أخذ النصوص
وفهمها أثمر مواقف علمية وسلوكية، وأهمها ما يتعلق بقضايا العقيدة المتعلقة بالله
وسلطانه، والقدر ونحوها، فمن التوم هذه المضامين مع ذلك المنهج فهو السلفي. ...
ولما كانت السلفية نسبة على أولئك السلف ، حدد هؤلاء المعرِّفون وجهة هذه النسبة
بأنها: ما كان عليه السلف من علم ودين، ويستشهد كثيرٌ منهم بحديث: [ ما أنا عليه
وأصحابي] ([33])
. وهذا المفهوم الأول.
المفهوم الثاني: وبإزاء ما سبق نجد مفكرين
آخرين يتسع لديهم مفهوم السلفية: فهو ـ لدى بعضهم ـ الارتداد إلى الماضي،
والتشبث بأصول سابقة في عصور لاحقةٍ. وعليه: فكلّ قراءة للواقع أو للمستقبل تريد
أن تقيمه على مرجعية سابقة ـ لم تنبثق من هذا الواقع ـ فهي قراءة سلفية. نجد هذا
عند الدكتور محمد عابد الجابري الذي يصف مشروعات النهوض العربي كلها بأنها سلفية:
فهي: إما سلفية دينية؛ حيث ترى أن إثبات الذات وتحقيق النهوض لا يتحقق إلا
بالعودة إلى الأصول الدينية عقيدة وشريعة والانطلاق منها.
وإما سلفية استشراقية، حيث ينظر أصحابه إلى
التراث العربي والإسلامي من خلال رؤية الغرب له، ومن ثم يقرؤون هذا التراث قراءة
أوروباوية النزعة ...
وإما سلفية ماركسية، ينظر من خلالها اليساري
العربي إلى التراث مفسراً إياه على أنه انعكاس للصراع الطبقي من جهة، وميداناً
للصراع بين المادية والمثالية من جهة أخرى.
فإذا انحصرنا في دائرة الإسلام، وجدنا أن
السلفية أنماطاً ـ فهناك سلفية سنية، وسلفية شيعية، وسلفية زيدية، وسلفية إباضية.
... ولهذا صارت السلفية مرادفة للتراثية ... التي تراهن على إحياء التراث الإسلامي
كعنصرٍ أساي وضروري لمواجهة مشاكل النهضة والتقدم والحضارة ... والسلفية بهذا
المعنى الواسع المستغرق لكل الفرق والمذاهب المنتسبة للإسلام المتشبثة بشيء من
التراث الإسلامي ـ أياً كان صدق إسلاميته من عدمه ـ تقابل الحداثة بمفهومها
المذهبي الذي يحسم طريق النهوض للأمة بأنه ليس في تراث قديم، بل إن مصدره الوحيد أنْ
نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابع ما تطوّعو لنا بالعطاء. ولهذا انتهت
هذه الحداثة بالخروج على الإسلام نهائياً، وبرفض تراثه، بل وبالتضحية بذات الأمة
وبهويتها. ... هكذا نجد: أن السلفية لدى هؤلاء العصرانيين العرب غير محددة المعالم
بصفتها منهجية ذات قواعد ثابتة متميّزة، أو مذهبية ذات أصول راسخة محددة، بحيث
يستطيع الناقد أن يحكم على المنتسبين إليها، والمتشبثين بشيء من مقولاتها من خلال
هذه القواعد والأصول، بصدق الانتساب من عدمه. ([34])
المفهوم الثالث: إزاء ما سبق كلّه من تصوّرات
عن السلفية ـ واضحة أو غامضة ـ نجد من ينكر وجود أيّ سلفية لا في عصرنا ولا في
عصور سالفة، معتبِراً السلفية ظرفاً زمنياً في التاريخ الإسلامي قضى وانتهى،
وبالتالي فليس منهجاً أو مذهباً يعتصَم به، أو ينتسب غليه. في هذا الإطار وضع
الدكتور محمد سعيد البوطي كتابه: (( السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي))
حيث يرى أن لفظة السلفية مبتدعة في العصر الحديث، رفعتها حركة الإصلاح الديني في
مصر؛ حيث جعلها كلٌّ من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده شعاراً لحركتهما النهضوية،
ثم جعلها أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب مرادفة للوهابية، للإيحاء بأن لهم جذوراً
في السابق الإسلامي ... ([35])
المفهوم الرابع: السلفية عند مجموعة من
العصرانيين لا يمكن تعريفها إلا من خلال مجموعة من الصفات التي تكشف تناقضها مع
العقلانية المعاصرة بمختلف وجوهها. ولهذا فالسلفية هنا قفزٌ على الواقع، وإلغاءٌ
لمفهوم الزمان، وإنكارٌ لعوامل التغيّر والتطوّر في المجتمع، وإرادة الوقوف عند
النماذج الفكرية هو نموذج مجتمع الصحابة والسلف الصالح ـ عمادها فهم ماضوي يعتبر
أولوية الثوابت على المتغيّرات، واتخاذ النص بديلا من الواقع. ... وأخيراً، فإن
السلفية هي: المثالية المبتورة من الواقع بتطوّراته وتطلعاته؛ فيشخص الواقع
بمعايير الخير والشر والإيمان والإلحاد دون وعي بمقتضيات الواقع. ... وهذا تعريف
انفعالي ـ شبيه بالمهاترات الصحفية ـ لا يمثل نظراً موضوعياً في السلفية يكون
أساساً يحكَم لها أو عليها من خلاله. ولولا أن بعض العصرانيين لا يقدم أيّ تعريف
للسلفية إلا تلك الصفات لما سقته هنا؛ ([36]) ...
المفهوم الخامس: هذا المفهوم لا يختلف عن الأول
كثيرا إلا في بعض جزئياته وتطبيقاته، ولهذا لم أر ضرورة سوقه، بل يراجع فيه ص43 ـ
44 من ((السلفية وقضايا العصر)). ثم قال الشيخ: خلاصة:
" هذه تصوّرات كثيرة في الساحة اليوم عن
السلفية، وقد لحظنا أن عامة التعريفات التي قدمها المفكرون
المعاصرون عن السلفية ـ ... ـ تعريفات معيارية، مبنية على مسبقات المخالفة أو
الرفض لها،... كما لحظنا الانفعال بالنظرة التاريخية ـ لدى الغرب ـ التي لا ترى
الأشياء إلا في تغيّرات متوالية، قد يحمل الجديد منها بقايا القديم، ولكنه يصوغها
في إطار بنيته الجديدة، فالقديم يذوب في الجديد لا أن الجديد يوائم كيفيته مه
القديم الأصل الصالح للزمن الجديد ... إلى أن قال الشيخ ـ حفظه الله تعالى في ختام
تعريفه للسلفية: " فالسلفية بإيجاز هي: الاتجاه المقدم للنصوص الشرعية على
البدائل الأخرى منهجاً وموضوعاً، الملتزم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي
أصحابه علماً وعملاً، المطرِّح للمناهج المخالفة لهذا الهدي في العقيدة والعبادة
والتشريع.
مقوّما ت السلفية:
بناءً على الأساس الذي ترتكز عليه السلفية في
التعريف، وهو اعتمادها على النصوص الشرعية في قضايا المنهج والموضوع اعتمادا
أولياً، فإن مقومات السلفية تتمثل في كل مقررات هذه النصوص في القرآن الكريم،
والصحيح الثابت من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن عامة الفرق الأخرى ـ المنتسبة للإسلام ـ لا
تقول عن نفسها: إنها ترفض هذه النصوص، أو شيئاً منها، بل تزعم أنها تسعى لخدمتها،
وتدور في فلكها، وترى أن خلافها مع السلفية إنما هو في منهج التعامل مع هذه
النصوص، ومن ثم في النتائج الموضوعية المختلفة بينهم ـ السلف والفرق الأخرى ـ
نتيجة اختلاف المناهج.
لهذا كان اهتمام رواد السلفية ابتداء من الإمام
الشافعي والإمام أحمد بن حنبل في تنظير مقومات السلفية في منهجية التعامل مع
النصوص في عناصر الاعتقاد التي حدث فيها الاضطراب في عصرهما، وظهرت فيها الرؤى
المخالفة لمعتقد السلف غلواً أو تفريطاً. ثم تواصل اهتمام العلماء بذكر هذه
المقومات، مركزين على ما اضطرب فكر الناس واختلفوا فيه. ... إى أن قال:
"وسأذكر هنا أبرز المقومات المنهجية والموضوعية للاتجاه السلفي دون تحليل أو
شرح؛ ...
المقومات المنهجية:
اعتماد الوحي ـ القرآن الكريم والسنة الثابتة
ـ بصفته المصدر المقدم في العلم على جميع المصادر الأخرى. ... ومما يدخل في
إطار هذا المقوّم:
1. نفي
العصمة عن البشر سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما
بلغوا من العلم والتقى والورع، ومن ثم وجوب الرد إلى الله ورسوله من الجميع.
2.
اعتماد منهج الاستدلال القرآني
في قضايا التوحيد والبعث وغيرها، ...
3. اعتمادهم
فهم الصحابة للنصوص، ... ومن مقتضيات هذا المقوّم:
رفض التأويل الذي أخذ به المتكلمون في تعاملهم مع النصوص ...
4.
الإجماع والقياس مصدران
تشريعيان ... يليا المصدرين الأصلين الكتاب والسنة، ويرجعان إليهما ...
5. التجديد
والاجتهاد: التجديد مصطلح شرعي ورد في حديث شريف، وهو
قوله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد
لها دينها] والتجديد في المفهوم السلفي هو: تطهير الدين مما ألحق به من شوائب
في أفهام الناس؛ حتى تعود له في حياتهم نصاعتُه الأولى. أما الاجتهاد: فإنه العملية التي تتم بها تغطية حياتهم
المتجددة بالأحكام المستمدة من الشريعة، ...
6. شمولية
الإسلام: الإسلام لدى اتجاه السلفي منظومة كاملة في جميع شؤون
الحياة الإنسانية عقيدة، وعبادة، وأخلاقاً، ونظماً، اقتصادية، وسياسية، واجتماعية،
ومعرفية، ... إلخ.
المقومات
الموضوعية:
1)
وجود الله عند السلف أمر فطري
بالضرورة والأدلة في الأنفس والآفاق، والنبوات شواهد تكشف هذا الشعور الفطري.
2)
التوحيد عند السف ثلاثة
أنواع:
- توحيد الربوبية، ...
- توحيد الألوهية، ...
- توحيد الأسماء والصفات؛ ...
3)
يقسمون الشرك من حيث أثرُه في
إيمان صاحبه إلى قسمين:
- شرك أكبر يخرج صاحبه من حظيرة الإيمان، ...
- شرك أصغر لا يخرج من الملة، ولكنه
يؤثر في الإيمان، وهو أمارة ضعف فيه، وهو الرياء.
4)
الإيمان: اعتقاد
بالجنان، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
5)
القدر حق بجميع مراتبه الأربع،
...
6) الإيمان
بالنبوات، والرسالات المذكورة في الوحي الصادق، واعتقاد أن الأنبياء بشرٌ يوحى
إليهم، والإيمان بمعجزاتهم بما أنزل الله عليهم من كتب.
7) الإيمان
بكل ما أخبر به الوحي من سمعيات؛ سواء وردت في القرآن، أو في صحيح
السنة كالملائكة، والشياطين، والجن، والحياة البرزخية، والحياة الآخرة، بما فيها
من حسابٍ وميزانٍ وصراطٍ، وحوضٍ وجنةٍ ونارٍ ... إلخ.
8)
تولّي
أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل
بيته، دون تفسيق أحدٍ منهم، أو اعتقاد عصمته.
9) الناس في الدنيا، إما مؤمن
أو منافق، أو كافر، ولا يكفرون معينا من أهل القبلة، ولو قال كفراً؛ إذْ يصفون
قوله بالكفر، أما هو فلا يُكفر حتى تقام عليه الحجة. أما في الآخرة، فالكفار ـ ملحدين، أو مشركين، أو منافقين ـ مخلدون في
النار، والمؤمنون المتقون في الجنة، أما أهل الكبائر من المؤمنين الذين ماتوا ولم يتوبوا، فإنهم تحت
رحمة الله ـ إنْ شاء عذّبهم بقدر ذنوبهم ثم أدخلهم الجنة، وإنْ شاء عفا عنهم.
10)
في التحسين والتقبيح يقولون: إن العقل
بفطرته السليمة يدرك حسن الأشياء وقبحها في الجملة، أما تفاصيلها، وترتيب الثواب،
والعقاب عليها فمناطه الشرع لا العقل.
11)
في السببية: يؤمن
السلفيون بأن الله المهيمن على هذا الكون قد أودعه سنناً تجري حركته من خلالها،
ويؤثر السبب فيها في المسبب، مع اعتقاد أن السبب والمسبب والسببية بينهما جارية
بأمر الله، تابعة لمشيئته.
12)
في الإمامة: يرفضون
الخروج على الإمام المسلم ما دام مقيماً الصلاة فيهم، ولم يعلن كفراً بواحاً،
ويغزون معه براً كان أو فاجراً.
13)
العبادة ليست قسيماً للإيمان،
ولا للتوحيد؛ إنها جزؤه المهم،
إذْ هي تحقيق لتوحيد الألوهية المتمثل بإفراد الله بالقصد، والطلب، وهي صلة مباشرة
بين العبد وربه دون وسائط.
النظم
الخلقية والاجتماعية في السياسة، والاقتصاد، والعلاقات الإنسانية، والحضارة، ترتكز في
المنهج السلفي على الأسس العقدية، وتتشكل من خلال الأحكام الشرعية ـ في القرآن
والسنة ـ حيث تتكيّف نماذجها التطبيقية بهذه الأحكام في ارتقائاتها الفنية، المتلائمة
مع ظروف زمنها. والله أعلى وأعلم وأحكم([37]) .
قال التميمي: " مقصود بالسلف الصالح: تعددت
أقوال العلماء في تحديد ذلك من حيث المدى الزمني:
1.
فمن العلماء من قصّر ذلك على الصحابة ـ رضوان
الله عليهم ـ فقط.
2.
ومن العلماء من قال بأنهم هم: الصحابة
والتابعون.
3.
ومن العلماء من قال بأنهم هم الصحابة والتابعون
وتابعو التابعين.
والقول الصحيح المشهور
الذي عليه جمهور أهل السنة هو أن المقصود هم القرون الثلاثة المفضلة الذين شهد لهم
النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، ... وكلُّ من سلك سبيلهم وسار على نهجهم فهو
سلفي نسبة إليهم. والسلفية هي المنهج الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم،
والقرون المفضلة من بعده ... فيصحّ الانتساب إلى هذا المنهج متى التزم الإنسان
بشروطه وقواعده، فكلُّ من حافظ على سلامة العقيدة طبقاً لفهم القرون الثلاثة
المفضلة فهو ذو نهج سلفي". ثم قال: قواعد المنهج السلفي: وحصرها في ثلاث نقاط
هي:
1.
ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها.
2.
التقيّد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين
وتابعهم في معاني القرآن والحديث. وتحته فروع.
3.
العمل بذلك والاستقامة عليه اعتقاداً وتفكيراً
وسلوكاً وقولا، والبعد عن كل ما يخالفه ويناقضه.
وذكر الباحث سردار ((السلفيون)) فبعد ما عرّف
بـ((ـالسلف)) و ((السلفي)) عرض على صحة الانتساب إلى ((السلف))، وذكر ـ كذلك ـ
المراد بـ((ـالسلفيين))، ووجه كونهم هم
الفرقة الواحدة الناجية، ثم عرض ـ كذلك ـ شبهة من جعل ((السلفية)) حركة محدثةً أو
محدودة بزمن وأجاب عنها، ومما قال بُعيدَ تعريفه ((السلف)) و((السلفي)) لغةً
واصطلاحاً مع ذكر أقول الأئمة التي تدل على أن ((السلف)) اسمُ للقرون المفضلة
الثلاثة الذين على رأسهم الصحابة والتابعون، قال بُعيد ذلك: " وتعريف
((السلف)) رُوعِي فيه أمران: 1- التقدم والسبق في الزمن. 2- التقدم والسبق في
العلم والإيمان والفضل والإحسان" وقال ـ كذلك ـ كما في ص973: " وبهذا
يُعلم أمران هامان: الأول: أنّ من كان في القرون الثلاثة المشهود لها
بالخيرية، ولكنه لم يكن موافقاً للكتاب والسنة في أقواله وأفعاله واعتقاده، ثم
لِما كان عليه الصحابة، بلْ كان مبتدعاً؛ أنه لا يدخل في لفظ ((السلف)) اصطلاحاً،
وإنْ كان يشمله لغةً. وبهذا يخرج جميع أهل الأهواء والبدع الذين ظهروا في تلك
القرون الفاضلة كالخوارج والشيعة والمعتزلة وغيرهم، ولذا يقال: ((السلف الصالح)). الثاني:
أن من تقدمنا بالعلم والإيمان والدين ولم يكن من أهل القرون الثلاثة المفضلة،
أو قريباً منها فهو لا يشمله المعنى الاصطلاحي ((للسلف))، وإنْ كنا نعترف له
بالفضل والعلم([39]) .
وقد ذكر الباحث سردار في التمهيد لبيانه هذه الجملة أنّ: جواب
النبي صلى الله عليه وسلم اشتمل على أمرين: سنته، وما كان عليه الصحابة،فقال:
" تفيد هذه الجملة الهامة من الحديث [ ما أنا عليه وأصحابي] أن مسلك الفرقة
الناجية من بين الفرق المتفرّقة قائم ... على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع قرينة هامةٍ هي: اتباع ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، وبهذه القرينة
النبوية يصبح ما كان عليه الصحابة من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن طاعته
وتصديقه، ويكون اتباع السنة ملزمًا باتباع ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، فمن
سلك سبيلهم ونهج منهجهم، فهو أولى الناس باتباع النبي صلى الله عليه وسلم واتباع
السنة، ومن أراد أخذ السنة بعيداً عن منهجهم كانت دعواه مفتقرة إلى برهانٍ وعاريةٍ
عن الصواب ... ـ وقد أحال الباحث إلى ص50ـ
51 من كتاب (( ما أنا عليه وأصحابي)). ثم
قال: فاشتملت هذه الجملة الهامة على ثلاثة أمور منها:
الأول: وجوب اتباع النبي
صلى الله عليه وسلم.
الثاني: وجوب اتباع ما كان
عليه الصحابة رضوان الله عليهم.
الثالث: أن هذين الأمرين
معاً هما: منهج الجماعة (( الفرقة الناجية والطائفة المنصورة))، والفرقان بين الحق
والباطل، والميزان الذي عليه توزن به الأقوال والأعمال والأشخاص أفرداً وجماعاتٍ،
وسبيل النجاة في الدنيا والآخرة، ولذا أفردت لكل واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة
مبحثاًً مستقلاً في هذا الفصل، والله المستعان)) ([41]).
وقد ذكر الباحث في المبحث الأول: تعريف السنة لغةً
واصطلاحاً، وحجيتها، ووجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وختم المبحث بالمطلب
الذي فيه: بيان أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كاملة في جميع الأمور، وذلك كله
في حدود 18 صفحة، أعني: من ص843 ـ 861 .
ثم عقد المبحث الثاني
وفيه بيان: فهم الصحابة وعملهم، وتكلم ـ كذلك ـ عن شدة اتباع الصحابة للنبي صلى
الله عليه وسلم، وأن الصحابة هم أفضل هذه الأمة وأعلمها بعد النبي صلى الله عليه
وسلم، ثم ختم ذلك: بحجية فهم الصحابة وعملهم، ووجوب اتباعهم. وذلك كله من ص862 ـ
883.
ثم عقد المبحث الثالث
الأخير وفيه: أن [ ما أنا عليه وأصحابي] هو الميزان الذي توزن به الفرق، وأن
موقف الفرقة الناجية من هذا الميزان هو انتهاجه منهجاً في القول والعمل ... وأما
غيرهم من أهل الفرق الآخرين فإن موقفهم من هذا الميزان لا يخرج من أحد هذه
الأمور:
أ-
المعارضة بالعقل.
ب-
المعارضة بالتعصب.
ت-
المعارضة برد أخبار الآحاد.
ث-
المعارضة بالابتداع.
ج-
المعارضة بالأحاديث الضعيفة والموضوعة.
ح-
المعارضة بالطعن في الصحابة.
خ-
المعارضة بالوجد والذوق والكشف.
د-
المعارضة باللغة والمصطلحات الحادثة.
ثم ذكر وجهَ كلٍّ وذكر
النماذج على ذلك من 884 ـ 902 .
هنا تضاف الصفحات المصوّرة من كتاب السلفية وقضايا العصر، وهي خمس
صفحات.
مسألة: صحة الانتساب إلى السلف
قال الباحث سردار ـ كما
في ص974 ـ : " الانتساب إلى ((السلف)) ـ فيقال: ((السلفي أو السلفيون)) ـ
انتساب صحيح لغةً ومعنى محمود ومقبولٌ عند أهل العلم المعتبَرين:
أما كونه صحيحاً لغةً: فهو
أنّ النسبة ـ ... ـ تدل على وجود ارتباطٍ واتصالٍ بين المنسوب والمنسوب إليه، ولا
شك أن من انتسب إلى (( السلف)) فإن بينه وبينهم ارتباطاً وثيقاً، واتصالاً عميقاً،
وهو المعنى الآتي ذكره:
وأما كونه صحيحاً معنىً:
فإن الانتساب إلى ((السلف)) لا يراد به مجرد الانتساب الزمني فقط، وإنما المقصود
به: أنّ المنتسب إلى ((السلف)) سائرٌ على ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم
في الاعتقاد والقول والعمل، فهو مرتبط بهم ارتباطَ عقيدةٍ ومنهجٍ، ومتصلٌ بهم
اتصالَ اقتداء واهتداء بهم.
وما قولنا: ((السلفيون))
إلا كقولنا: ((أهل السنة والجماعة)) سواء بسواء، فكما أن لقب ((أهل السنة
والجماعة)) أول ما أطلق أطلق على الصحابة فهم ((أهل السنة)) وهم (( الجماعة))، ولم
يمنع ذلك من إطلاق هذا اللقب على كلّ من اقتفى أثرهم، وسار بسيرهم من بعدهم، فكذلك
لقب ((السلف)) يعنى به: الصحابة في الدرجة الأولى، ثم التابعون وتابعوهم، فانتساب
من بعدهم إليهم انتسابٌ صحيحٌ لا غبار عليه.
وأما كون الانتساب إلى
((السلف)) محموداً مقبولاً عند أهل العلم: فلم يزل أهل العلم المعتبَرين يطلقون
لفظ ((السلفي)) على من يتبع ((السلف))، وينتحل مذهبهم الحق، كما يطلقون لفظ
((السلفية)) على الطريقة المرضية الواجبُ اعتقادها واتباعُها، أو على من
قال بقول ((السلف))، واعتقد الحق الذي معهم؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لا
عيب على من أظهر مذهب السلف، وانتسب إليه، واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه
بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً" المجموع جـ4 ص149).
المسألة الثانية: الرد على من جعل
((السلفية)) حركة محدثَةً أو محدودة بزمنٍ.
قال الباحث سردار: "ذهب بعض الكتّاب
المعاصرين، والمنتسبين إلى العلم إلى الادعاء بأن (( السلفية)) إطارٌ جديدٌ
لجماعةٍ إسلاميةٍ جديدةٍ انتزعت نفسها من قلب دائرة الجماعة الإسلامية الواحدة،
وهي تتخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده مفهوماً معيَّناً، فتمتاز عن بقية
المسلمين بأحكامها وميولاتها، بل تختلف عنهم حتى بمزاجها النفسي، ومقاييسها
العقلية. ومنهم من زعم أن (( السلفية)) لا تعني إلا مرحلةً زمنيةً
وصفت بالخيرية، فلا اختلاف بين السلف والخلف، ولا حواجز بينهم ولا انقسام، فلا
يصح أن تُجعل السلفيةُ مذهباً إسلامياً يُتّبع، ولا يجوز أن يقسّم المسلمون
إلى ((سلفيين)) و((مبتدعين))، ولا يسوغ أنْ تتسمّ به جماعةٌ من المسلمين؛ لأن ذلك
سيُعدُّ من البدع الطارئة. وتولّى كِبَر هذه الآراء المحدثة: الدكتور محمد سعيد
رمضان البوطي في كتابٍ عنْوَن له: (( السلفية مرحلةٌ زمنيةٌ مباركة، لا
مذهبٌ إسلامي!)).
وقد ردّ عليه العلماء
والمشايخ هذا الفكر الخاطئ، ومن أبرزهم وأعلمهم فضيلة الشيخ العلامة الأستاذ
الدكتور صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله، ومما ذكره في الرد عليه:
معنى عنوان الكتاب: أن السلف لا مذهب لهم يُعرفون به، وكأنهم في
نظر البوطي عوامٌ عاشوا في فترةٍ من الزمن بلا مذهب؛ وعلى هذا فلا معنى لقوله صلى
الله عليه وسلم: [ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين]، ولا معنى لقوله: [ ما أنا
عليه وأصحابي]؛ لأن السلف عند الوطيّ ليس لهم مذهبٌ.
تفسير السلفية بأنها مرحلةٌ
زمنية، وليست جماعة؛ تفسير غريبٌ وباطل، فهل يقال للمرحلة الزمنية أنها سلفيةٌ؟
هذا لم يقل به أحدٌ من البشر!
السلفية وصفٌ لجماعة، وهي
الجماعة المؤمنة الذين عاشوا في العصر الأول من عصور الإسلام، والتزموا بكتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ.
قوله صلى الله عليه وسلم:
[ ستفترق أمتي] ثم قوله: [ ما أنا عليه اليوم وأصحابي] يدل على أن هناك سلفيةٌ
متأخرةٌ تتبعها في نهجها، وهناك جماعاتٌ ( فرق) مخالفة لها، متوعّدة بالنار" ([42]) . وانظر كتابه: ((نظرات وتعقبات على ما في كتاب ((السلفية)) لمحمد
سعيد رمضان من الهفوات)) وانظر فيه ص21 ـ22.
ت-
رد الألقاب الباطلة التي ينبزهم بها مخالفوهم،
وبيان أنه لا يلحق أهل السنة منها شيء:
قال الباحث: إطلاق الألفاظ السيئة على
أهل السنة ـ وذلك عندما ذكر عشر علامات لأهل الأهواء والفرقة ـ قال حفظه
الله :
بعث الله عبده ونبيّه محمداً صلى الله عليه
وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون؛ فآمن به من آمن،
وأما من بقيَ على كفره فقد ناصب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه العداء بكلّ
صنوفه وألوانه، وقصد إلى صدّ الناس عنه وعن دينه، ولما رأوا أنّ دينه يزيد
انتشاراً عمدوا إلى أسلوب مشينٍ ينفر الناس قبل أن يصلوا إليه أو يستمعوا إليه،
وهو تلقيبه بالألقاب المفتراة المنفّرة، فلما رأوا القرآن كلاماً موزوناً شبّهوه بالشعر
الموزون، ورأوا الرسول يخبر بالغيوب عن روحٍ ينزل إليه بها فشبّهوه بالكاهن
الذي يخبر بكلمة فيكذب معها مائة كذبة عن روح شيطانيٍّ ينزل عليه بها، ورأوه يزيل
ما في النفوس من الاعتقادات الفاسدة، والإرادات الفاسدة إلى الصحيح الذي فطر الله
عليه فشبهوه بالساحر الذي يغيّر الأمر في إدراكاتهم وحركاتهم حتى يعتقدوا
الشيء بخلاف ما هو عليه، ويحبوا ما أبغضوه، ويبغضوا ما أحبّوه، ورأوه قد أتى بما
يخالف عاداتهم الفاسدة، وما يذمون عليه فشبهوه بالمجنون الذي يخرج عما
يُعرف، وما يُذم عليه.
وإذا كان هذا صنيع المشركين مع محمد صلى الله
عليه وسلم ـ أفضل الخلق ـ وأصحابه ـ خير هذه الأمة ـ؛ فإن لكل قومٍ وارثاً، فإن ما
كان يصتعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته هو ما ورثه عنهم كلّ ملحدٍ
ومبطلٍ ومبتدعٍ مع أهل السنة والجماعة الذين تابعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم
وصحابته اعتقاداً واقتصاداً وقولاً وعملاً على بصيرةٍ من الله وبرهان؛ فأخذوا
يلقبونهم بالألقاب الشنيعة، ويصفونهم بالأوصاف المنفِّرة، وأهل السنة منها براء،
وأهل الباطل هم أحق بها وأهلها، وهذه سنة الله في خلقه؛ أنّ أنقصَ الناسِ عقولاً
وأعظمهم سفهاً يرمون أعقل الخلق وأفضلهم بنقصان العقول، ولا تنسَ قول أعداء الرسل
في الرسل: إنهم مجانين لا عقول لهم، فهكذا ورثتُهم يرمون ورثة الرسل بدائهم إلى
يوم القيامة.
وقد نصّ أئمة أهل السنة ـ كالإمام أحمد وأبي
حاتم والبربهاري (ص688)، والالكائي وأبي عثمان الصابوني وغيرهم ـ على أنّ من علامات
أهل البدع إطلاق الألقاب الشنيعة القبيحة على أهل السنة. كما نصّوا ـ رحمهم ـ
على تلك الألقاب التي أطلقها أهل البدع، وبيّنوا مرادهم بها، وبطلان اتصاف أهل
السنة بها، ومن ذلك الألقاب: ـ فذكر في ص689 وما بعدها جملةً، وكان منهجه في ذكر
هذه الألقاب أنه يذكر اللقب ثم يردفه بذكر من أطلقه من المبتدعة على أهل السنة،
ويختم بالمعنى المراد منه، ومن ذلك:
1.
مشبهة.
2.
مجسمة.
3.
مجبرة.
4.
نقصانية.
5.
مخالفة.
6.
شُكّاك.
7.
مرجئة.
8.
ناصبة.
9.
العامة.
10.
الجمهور.
11.
حشْوية / أو حشَوية.
12.
نابتة / أو نوابت.
13.
غُثاءٌ.
14.
غُثراء.
15.
مقلِّدة.
16.
يهود
الأمة.
17.
نصارى الأمة.
18.
فرعونية .
وقد نبّه الباحث في إحدى حاشياته إلى أن
شيخ الإسلام أشار إلى أن لأبي إسحاق إبراهيم ابن درباس الشافعي جزءً لطيفاً
بعنوان: " تَنْزِيهُ أَئِمَّةِ الشَّرِيعَةِ عَنْ الْأَلْقَابِ الشَّنِيعَةِ
"، وقد
رأيت إيراد نص كلام الشيخ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ هنا، فقد قال:
" وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو
إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ دِرْبَاسٍ الشَّافِعِيُّ جُزْءًا سَمَّاهُ
: " تَنْزِيهُ أَئِمَّةِ الشَّرِيعَةِ عَنْ الْأَلْقَابِ الشَّنِيعَةِ "
ذَكَرَ فِيهِ كَلَامَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَعَانِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرَ
أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ يُلَقِّبُ " أَهْلَ السُّنَّةِ
" بِلَقَبِ افْتَرَاهُ - يَزْعُمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى رَأْيِهِ الْفَاسِدِ
- كَمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُلَقِّبُونَ النَّبِيَّ بِأَلْقَابِ افْتَرَوْهَا
. فَالرَّوَافِضُ تُسَمِّيهِمْ نَوَاصِبَ وَالْقَدَرِيَّةُ يُسَمُّونَهُمْ مُجْبِرَةً
وَالْمُرْجِئَةُ تُسَمِّيهِمْ شَكَّاكًا والجهمية تُسَمِّيهِمْ مُشَبِّهَةً وَأَهْلُ
الْكَلَامِ يُسَمُّونَهُمْ حَشْوِيَّةً وَنَوَابِتَ وَغُثَاءً وَغُثْرًا إلَى أَمْثَالِ
ذَلِكَ . كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَارَةً مَجْنُونًا وَتَارَةً شَاعِرًا وَتَارَةً كَاهِنًا وَتَارَةً مُفْتَرِيًا
. قَالُوا فَهَذِهِ عَلَامَةُ الْإِرْثِ الصَّحِيحِ وَالْمُتَابَعَةِ التَّامَّةِ فَإِنَّ
السُّنَّةَ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ اعْتِقَادًا وَاقْتِصَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا ؛ فَكَمَا أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ
عَنْهُ يُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءِ مَذْمُومَةٍ مَكْذُوبَةٍ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا
بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ - فَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ لَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ
الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ؛ بَاطِنًا وَظَاهِرًا
. وَأَمَّا الَّذِينَ وَافَقُوهُ بِبَوَاطِنِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ إقَامَةِ الظَّوَاهِرِ
وَاَلَّذِينَ وَافَقُوهُ بِظَوَاهِرِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ تَحْقِيقِ الْبَوَاطِنِ وَاَلَّذِينَ
وَافَقُوهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ : فَلَا بُدَّ لِلْمُنْحَرِفِينَ
عَنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِمْ نَقْصًا يَذُمُّونَهُمْ بِهِ وَيُسَمُّونَهُمْ
بِأَسْمَاءِ مَكْذُوبَةٍ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا - كَقَوْلِ الرافضي : مَنْ
لَمْ يُبْغِضْ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعُمَرَ : فَقَدْ أَبْغَضَ
عَلِيًّا ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِعَلِيِّ إلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمَا ثُمَّ
يَجْعَلُ مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ناصبيا ؛ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ
الْبَاطِلَةِ الَّتِي اعْتَقَدَهَا صَحِيحَةً أَوْ عَانَدَ فِيهَا وَهُوَ الْغَالِبُ
. وَكَقَوْلِ الْقَدَرِيِّ : مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ وَخَلَقَ
أَفْعَالَ الْعِبَادِ : فَقَدْ سَلَبَ مِنْ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارَ وَالْقُدْرَةَ
وَجَعَلَهُمْ مَجْبُورِينَ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا إرَادَةَ لَهَا وَلَا قُدْرَةَ
. وَكَقَوْلِ الجهمي : مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ : فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ
مَحْصُورٌ وَأَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مَحْدُودٌ وَأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِخَلْقِهِ .
وَكَقَوْلِ الجهمية الْمُعْتَزِلَةِ : مَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً
فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ وَأَنَّهُ مُشَبِّهٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ
أَعْرَاضُ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجَوْهَرِ مُتَحَيِّزٍ وَكُلُّ مُتَحَيِّزٍ
جِسْمٌ مُرَكَّبٌ أَوْ جَوْهَرٌ فَرْدٌ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مُشَبِّهٌ لِأَنَّ
الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ . وَمَنْ حَكَى عَنْ النَّاسِ " الْمَقَالَاتِ
" وَسَمَّاهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَكْذُوبَةِ - بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِ
الَّتِي هُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ فِيهَا - فَهُوَ وَرَبُّهُ وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ
بِالْمِرْصَادِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ " ([43]) .
ثم قال
الباحث سردار بعد ذلك، " وبعد: فهذه ألقاب أطلقها أهل البدع والأهواء والفرقة
على أهل السنة أهل الحديث والأثر، وهي كلها ـ عند التأمل ـ بعيدة عن حقيقة قولهم،
وواقع حالتهم كل البعد، فهي افتراء محض، وتقوّل بالزور والبهتان. وفي ذلك نكتة
بديعة، وهي: أن المشركين كانوا يسمون محمداً صلى الله عليه وسلم مذمّماً ـ بدل
محمد ـ فيشتمونه مذمّماً ...، فصرف الله عن نبيّه شتمهم لفظاً ومعنىً. وكذلك أتباع
محمد صلى الله عليه وسلم يسميهم أعدائهم: مجسمة، مشبهة، حشوية، نواصب، فيرمون هذه
الأسماء ويشتمونها، ويصرف الله شتمهم عنهم لفظاً ومعنىً.
ولا شك أنّ إطلاق المبتدعة تلك الألقاب على أهل
السنة له أسباب([44]) منها:
·
بغض أهل الأثر وحسدهم، والافتراء عليهم.
·
عدم
فهمهم مقالة السلف،؛ فينقلون عنهم ما فهموه هم من مقالتهم،
ثم يصمونهم بمقتضى ذلك الفهم.
· تنفير الناس عن أهل السنة،
وعن الحق الذي يعتقدونه، ولو كان لهؤلاء عقول لعلموا أن التلقيب بهذه الألقاب ليس
لهم، وإنما هو لمن جاء بهذه النصوص، وتكلّم بها، ودعا الأمة إلى الإيمان بها
ومعرفتها، ونهاهم عن تحريفها وتبديلها.
ص698) وقد نتج عن ذلك: لعن
طوائف من أهل البدع لأهل الإثبات والسنة، وتبديعهم إياهم، وتضليلهم، وتكفيرهم
وعقوبتهم.، فلقي أهل السنة ـ من ذلك ـ ما لقيَ الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم، وهذا
الأمر لا يزال في الأرض إلى أن يرثها الله ومن عليها.
ملحقان:
وقد رأيت أن أختم البحث بذكر ملحقين عظيمين عن
شيخ الإسلام فيها علوماً جمةٌ، فليُصبر على الإطالة.
وسئل شيخ الإسلام ـرحمه
الله عن قوله صلى الله عليه وسلم: [تفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة] ما الفرق؟ وما معتقد
كل فرقة من هذه الصنوف؟
فأجاب
(( الحمد لله الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند كسنن أبي داود والترمذي
والنسائي وغيرهم ولفظه افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة
وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وستفترق هذه الأمة
على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وفي لفظ على ثلاث وسبعين ملة وفي وراية
قالوا يا رسول الله من الفرق الناجية قال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي
وفي رواية قال هي الجماعة يد الله على الجماعة
ولهذا وصف الفرقة الناجية
بأنها أهل السنة والجماعة وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم. وأما الفرق الباقية فإنهم
أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة
الناجية فضلا عن أن تكون بقدرها بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة وشعار هذه الفرق
مفارقة الكتاب والسنة والإجماع فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة
وأما تعيين هذه الفرق فقد
صنف الناس فيهم مصنفات وذكروهم في كتب المقالات لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة
هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل فإن الله حرم القول بلا علم عموما وحرم
القول عليه بلا علم خصوصا فقال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن
والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله
ما لا تعلمون وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا
خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما
لا تعلمون وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وأيضا فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق
بحكم الظن والهوى فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة
ويجعل من حالفها أهل البدع وهذا ضلال مبين فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فهو الذي يجب
تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة بل كل
أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله
من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة كما
يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك كان من أهل البدع والضلال
والتفرق. وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين
ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا
بين صحيحها وسقيمها وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعا لها تصديقا وعملا
وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء
به من الكتاب والحكمة فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم
تكن ثابتة فيما جاء به الرسول بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل
الذي يعتقدونه ويعتمدونه. ...)) ([45])
الملحق الثاني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده؛
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
قدس الله روحه ما قولكم في مذهب السلف في الإعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين ما الصواب
منهما وما تنتحلونه أنتم من المذهبين وفي أهل الحديث هل هم أولى بالصواب من غيرهم وهل
هم المرادون بالفرقة الناجية وهل حدث بعدهم علومٌ جهلوها، وعلمها غيرُهم؟
فأجاب (( الحمد لله هذه المسائل
بسطها يحتمل مجلدات لكن نشير إلى المهم منها والله الموفق قال الله تعالى ومن يشاقق
الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت
مصيرا وقد شهد الله لأصحاب نبيه ومن تبعهم بإحسان بالإيمان فعلم قطعا أنهم المراد بالآية
الكريمة فقال تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك
الفوز العظيم وقال تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما
في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا فحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم
ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم
فمن سبيلهم في الإعتقاد الإيمان
بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على
لسان رسوله من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها ولا تفسير لها ولا تأويل
لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين ولا سمات المحدثين بل أمروها كما
جاءت وردوا علمها إلى قائلها ومعناها إلى المتكلم بها
وقال بعضهم ويروى عن الشافعي
آمنت بما جاء عن الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله وعلموا أن المتكلم
بها صادق لا شك في صدقه فصدقوه ولم يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه وأخذ
ذلك الآخر عن الأول ووصى بعضهم بعضا بحسن الإتباع والوقوف حيث وقف أولهم وحذروا من
التجاوز لهم والعدول عن طريقتهم وبينوا لنا سبيلهم ومذهبهم ونرجوا أن يجعلنا الله تعالى
ممن اقتدى بهم في بيان ما بينوه وسلوك الطريق الذي سلكوه
والدليل على أن مذهبهم ما
ذكرناه أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار رسول الله نقل مصدق لها مؤمن بها قابل
لها غير مرتاب فيها ولا شاك في صدق قائلها ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها ولا تأولوه
ولا شبهوه بصفات المخلوقين إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم ولم يجز أن يكتم بالكلية
إذ لا يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته لجريان ذلك في القبح مجرى
التواطؤ على نقل الكذب وفعل ما لا يحل
بل بلغ من مبالغتهم في السكوت
عن هذا أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه تارة بالقول العنيف
وتارة بالضرب وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته ولذلك لما بلغ عمر رضي
الله عنه أن صبيغا يسأل عن المتشابه أعد له عراجين النخل فبينما عمر يخطب قام فسأله
عن الذاريات ذروا فالحاملات وقرا وما بعدها فنزل عمر فقال لو وجدتك محلوقا لضربت الذي
فيه عيناك بالسيف ثم أمر به فضرب ضربا شديدا وبعث به إلى البصرة وأمرهم أن لا يجالسوه
فكان بها كالبعير الأجرب لا يأتي مجلسا إلا قالوا عزمة أمير المؤمنين فتفرقوا عنه حتى
تاب وحلف بالله ما بقي يجد مما كان في نفسه شيئا فأذن عمر في مجالسته فلما خرجت الخوارج
أتى فقيل له هذا وقتك فقال لا نفعتني موعظة العبد الصالح
ولما سئل مالك بن أنس رحمه
الله تعالى فقيل له يا أبا عبدالله الرحمن على العرش استوى كيف استوى فأطرق مالك وعلاه
الرحضاء يعني العرق وانتظر القوم ما يجيء منه فيه فرفع رأسه إلى السائل وقال الإستواء
غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأحسبك رجل سوء وأمر
به فأخرج
ومن أول الإستواء بالإستيلاء
فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك وسلك غير سبيله وهذا الجواب من مالك رحمه الله في الإستواء
شاف كاف في جميع الصفات مثل النزول والمجيء واليد والوجه وغيره
فيقال في مثل النزول النزول
معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة
وهكذا يقال في سائر الصفات
إذ هي بمثابة الإستواء الوارد به الكتاب والسنة
وثبت عن محمد بن الحسن صاحب
أبي حنيفة أنه قال اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث
التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير
ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي وفارق الجماعة فإنهم
لم يصفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا فمن قال بقول جهم فقد
فارق الجماعة انتهى
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام
كيف حكى الإجماع في هذه المسألة ولا خير فيما خرج عن إجماعهم ولو لزم التجسيم من السكوت
عن تأويلها لفروا منه وأولوا ذلك فإنهم أعرف الأمة بما يجوز على الله وما يمتنع عليه
وثبت عن إسماعيل بن عبدالرحمن
الصابوني أنه قال إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم تبارك وتعالى
بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد له بها رسوله على ما وردت به الأخبار الصحاح
ونقله العدول الثقات ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ولا يكيفونها تكييف المشبه
ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية
وقد أعاذ الله أهل السنة من
التحريف والتكييف ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه وتركوا
القول بالتعطيل والتشبيه واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز وجل من قائل ليس كمثله شيء
وهو السميع البصير وبقوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد
وقال سعيد بن جبير ما لم يعرفه
البدريون فليس من الدين
وثبت عن الربيع بن سليمان
أنه قال سألت الشافعي رحمه الله تعالى عن صفات الله تعالى فقال حرام على العقول أن
تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر وعلى
الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه أو على
لسان نبيه عليه الصلاة والسلام
وثبت عن الحسن البصري أنه
قال لقد تكلم مطرف على هذه الأعواد بكلام ما قيل قبله ولا يقال بعده قالوا وما هو يا
أبا سعيد قال الحمد لله الذي من الإيمان به الجهل بغير ما وصف به نفسه
وقال سحنون من العلم بالله
السكوت عن غير ما وصف به نفسه
وثبت عن الحميدي أبي بكر عبدالله
بن الزبير أنه قال أصول السنة فذكر أشياء ثم قال وما نطق به القرآن والحديث مثل وقالت
اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ومثل والسموات مطويات بيمينه وما أشبه هذا من القرآن
والحديث لا نزيد فيه ولا نفسره ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول الرحمن على
العرش استوى ومن زعم غير هذا فهو جهمي
فمذهب السلف رضوان الله عليهم
إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفى الكيفية عنها لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام
في الذات وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات وعلى هذا مضى
السلف كلهم ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لخرجنا عن المقصود
في هذا الجواب
فمن كان قصده الحق وإظهار
الصواب اكتفى بما قدمناه ومن كان قصده الجدال والقيل والقال والمكابرة لم يزده التطويل
إلا خروجا عن سواء السبيل والله الموفق
وقد ثبت ما ادعيناه من مذهب
السلف رضوان الله عليهم بما نقلناه جملة عنهم وتفصيلا واعتراف العلماء من أهل النقل
كلهم بذلك ولم أعلم عن أحد منهم خلافا في هذه المسألة بل لقد بلغني عمن ذهب إلى التأويل
لهذه الآيات والأخبار من أكابرهم الاعتراف بأن مذهب السلف فيها ما قلناه ورأيته لبعض
شيوخهم في كتابه قال اختلف أصحابنا في أخبار الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير
تفسير ولا تأويل مع نفي التشبيه عنها وهو مذهب السلف فحصل الإجماع على صحة ما ذكرناه
بقول المنازع والحمد لله
وما أحسن ما جاء عن عبدالعزيز
بن عبدالله بن أبي سلمة أنه قال عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة فإن السنة
إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ
والحمق والتعمق فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا
ولهم كانوا على كشفها أقوى وبتفصيلها لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون وقد بلغهم
عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد
سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه
عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان
ولقد وصفوا منه ما يكفي وتكلموا
منه بما يشفي فمن دونهم مقصر ومن فوقهم مفرط لقد قصر دونهم أناس فجفوا وطمح آخرون فغلوا
وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم)) ([46]) .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله
وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([3]) وينظر ما سبق من
هذه المراجع، ((موقف أهل السنة ...)) ص29
ـ33، و(( النفي في باب صفات الله عز وجل بين أهل السنة زالجماعة والمعطلة)) ص61ـ
62، و(( خبر الواحد وحجيته)) للشنقيطي، وفيه ـ كذلك ـ التنبيه على أن قول الجمهور
في تعريف السنة لغة أرجح؛ وهو كونها عامة للطريقة المحمودة والمذمومة خلافاً
للخطابي والأزهري، ص28 ـ29، و((جهود المملكة في نشر السنة والسيرة النبوية في
الخارج))، ص11، و(( كتابة السنة النبوية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة
رضي الله عنهم، وأثرها في حفظ السنة النبوية)) ص 3ـ5، و(( اتخاذ السنة النبوية إلى
جانب القرآن الكريم أساساً لشؤون الحياة والحكم في المملكة العربية السعودية)) ص11
ـ12 وهذه الثلاثة الأخيرة من موضوعات ندوة
المجمع ملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
No comments:
Post a Comment