مختصر كتاب الإيمان
لأبي عبيد القاسم ابن سلاّم -رحمه الله-.
اختصره الطالب أبو بكر حمزة
بسم الله الرحمن الرحيم
باب نعت الإيمان في استكماله ودرجاته
قال ـ رحمه
الله
أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن
معروف أعني ابن أبي نصر في داره بدمشق ، في صفر سنة عشرين وأربع مائة ، قال : حدثنا
أبو يعقوب إسحاق بن أحمد بن يحيى العسكري صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام هذه الرسالة
وأنا أسمع قال أبو عبيد : أما بعد ، فإنك كنت تسألني عن الإيمان ، واختلاف الأمة في
استكماله ، وزيادته ونقصه ، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السنة من ذلك ، وما
الحجة على من فارقهم فيه ؟ فإن هذا رحمك الله خطب قد تكلم فيه السلف في صدر هذه الأمة
وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا ، وقد كتبت إليك بما انتهى إلي علمه من ذلك مشروحا
مخلصا ، وبالله التوفيق ، اعلم رحمك الله ، أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في
هذا الأمر فرقتين ، فقالت إحداهما : الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب ، وشهادة الألسنة
، وعمل الجوارح وقالت الفرقة الأخرى : بل الإيمان بالقلوب والألسنة ، فأما الأعمال
فإنما هي تقوى وبر ، وليست من الإيمان وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين ، فوجدنا الكتاب
والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا ، وينفيان ما
قالت الأخرى والأصل الذي هو حجتنا في ذلك اتباع ما نطق به القرآن ، فإن الله تعالى
ذكره علوا كبيرا قال في محكم كتابه : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (1) وإنا رددنا الأمر إلى ما
ابتعث الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه ، فوجدناه قد جعل بدء الإيمان
شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام النبي
صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين ، أو بضع عشر سنة ، يدعو إلى هذه الشهادة
خاصة ، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها ، فمن أجاب إليها كان مؤمنا ،
لا يلزمه اسم في الدين غيره ، وليس يجب عليهم زكاة ، ولا صيام ، ولا غير ذلك من شرائع
الدين ، وإنما كان هذا التخفيف عن الناس يومئذ فيما يرويه العلماء رحمة من الله لعباده
، ورفقا بهم ، لأنهم كانوا حديث عهد بجاهلية وجفائها ، ولو حملهم الفرائض كلها معا
نفرت منه قلوبهم ، وثقلت على أبدانهم ، فجعل ذلك الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان
المفترض على الناس يومئذ ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها ، وبضعة عشر شهرا بالمدينة
وبعد الهجرة فلما أثاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم ، زادهم الله في إيمانهم
أن صرف الصلاة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس، . . . فلما نزلت الشرائع بعد
هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء لا فرق بينها ، لأنها جميعا من عند الله وبأمره وبإيجابه
فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها ، وتمسكوا بذلك الإيمان
الذي لزمهم اسمه ، والقبلة التي كانوا عليها لم يكن ذلك مغنيا عنهم شيئا ، ولكان فيه
نقض لإقرارهم لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية ، فلما أجابوا
الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار صارا جميعا معا هما يومئذ الإيمان
، إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار والشهيد على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل وما
كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (6) وإنما نزلت في الذين توفوا من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم على الصلاة إلى بيت المقدس ، فسئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فأي شاهد يلتمس على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه
الآية ؟ فلبثوا بذلك برهة من دهرهم ، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعة ، وانشرحت لها
صدورهم ، أنزل الله فرض الزكاة في أيمانهم إلى ما قبلها ، فقال (أقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة) وقال: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فلو أنهم ممتنعون من الزكاة
عند الإقرار ، وأعطوه ذلك بالألسنة ، وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون من الزكاة كان
ذلك مزيلا لما قبله ، وناقضا للإقرار والصلاة ، كما كان إباء الصلاة قبل ذلك ناقضا
لما تقدم من الإقرار والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار
على منع العرب الزكاة كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، . . . ثم
كذلك كانت شرائع الإسلام كلها ، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة به
ويشملها جميعا اسم الإيمان ، فيقال لأهله : مؤمنون وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من
ذهب إلى أن الإيمان بالقول ، لما سمعوا تسمية الله إياهم مؤمنين ، أوجبوا لهم الإيمان
كله بكماله كما غلطوا في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان ما
هو ؟ فقال : « أن تؤمن بالله وكذا وكذا » وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية
؟ فأمر بعتقها ، وسماها مؤمنة وإنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان ، ومن
قبولهم وتصديقهم بما نزل منه ، وإنما كان ينزل متفرقا كنزول القرآن . . . ثم أكثر
الشيخ ـ رحمه الله ـ من ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على ما قال، ثم قال: فلو كان الإيمان كاملا بالإقرار ، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكة في أول النبوة كما يقول هؤلاء ما كان للكمال معنى ، وكيف يكمل
شيئا قد استوعبه ، وأتى على آخره ؟ قال أبو عبيد : فإن قال لك قائل : فما هذه الأجزاء
الثلاثة وسبعون ؟ قيل له : لم تسم لنا مجموعة فنسميها ، غير أن العلم يحيط أنها من
طاعة الله وتقواه ، وإن لم تذكر لنا في حديث واحد ، ولو تفقدت الآثار لوجدت متفرقة
فيها ، ألا تسمع قوله في إماطة الأذى ، وقد جعله جزءا من الإيمان ؟ وكذلك قوله في حديث
آخر : الحياء شعبة من الإيمان ، وفي الثالث : الغيرة من الإيمان ، وفي الرابع : البذاذة
من الإيمان ، وفي الخامس : حسن العهد من الإيمان فكل هذا من فروع الإيمان ، ومنه حديث
عمار : ثلاث من الإيمان : الإنفاق من الإقتار ، والإنصاف من نفسك ، وبذل السلام على
العالم ثم الأحاديث المعروفة عند ذكر كمال الإيمان ، حين قال : أي الخلق أعظم إيمانا
؟ » فقيل : الملائكة ، ثم قيل : نحن يا رسول الله ، فقال : بل قوم يأتون بعدكم ، فذكر
صفتهم ومنه أيضا قوله : إن أكمل ، أو ، من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وكذلك
قوله : لا يؤمن الرجل الإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقا وقد
روي مثله أو نحوه عن عمر بن الخطاب ، وابن عمر ثم من أوضح ذلك وأبينه حديث النبي صلى
الله عليه وسلم في الشفاعة ، حين قال : فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة
من إيمان ، وبرة من إيمان ، ومثقال ذرة « وإلا صولب ومنه حديثه في الوسوسة ، حين سئل
عنها ؟ فقال : ذلك صريح الإيمان وكذلك حديث علي عليه السلام : » إن الإيمان يبدأ لمظة
في القلب ، فكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض عظما « في أشياء من هذا النحو
كثيرة يطول ذكرها تبين لك التفاضل في الإيمان بالقلوب والأعمال ، وكلها يشهد أو أكثرها
أن أعمال البر من الإيمان ، فكيف تعاند هذه الآثار بالإبطال والتكذيب ؟ ومما يصدق تفاضله
بالأعمال قول الله جل ثناؤه إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت
عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) إلى قوله: (أولئك هم المؤمنون حقا) فلم
يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط ، والذي يزعمه أنه بالقول خاصة
يجعله مؤمنا حقا ، وإن لم يكن هناك عمل ، فهو معاند لكتاب الله والسنة ومما يبين لك
تفاضله في القلب ، قوله يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن)
ألست ترى أن هاهنا منزلا دون منزل (الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات) كذلك ومثله
قوله: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) فلولا أن هناك موضع مزيد ما كان لأمره
بالإيمان معنى ، ثم قال أيضا ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون
ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ، وقال (ومن الناس
من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) وقال (وليمحص الله
الذين آمنوا ويمحق الكافرين) أفلست تراه تبارك وتعالى قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل
، ولم يرض منهم بالإقرار دون العمل ، حتى جعل أحدهما من الآخر ؟ فأي شيء يتبع بعد كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة
؟ فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا : أن
الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا ، وأنه درجات بعضها فوق بعض ، إلا أن أولها وأعلاها
الشهادة باللسان ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جعله فيه بضعة
وسبعين جزءا ، فإذا نطق بها القائل ، وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول
فيه بالاستكمال عند الله ، ولا على تزكية النفوس ، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ، ازداد
به إيمانا . . .
باب الاستثناء في الإيمان
وعن محل بن محرز قال : قال لي إبراهيم : « إذا
قيل لك : أمؤمن أنت ؟ فقل : آمنت بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله »
وقال رجل لعلقمة : أمؤمن أنت
؟ فقال : « أرجو إن شاء الله »
قال أبو عبيد : ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء
فيه ، وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول
من التزكية والاستكمال عند الله ، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعا
مؤمنين ، لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم ، وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان
، ولهذا كان الأوزاعيُّ يرى الاستثناء وتركَه جميعا واسِعَين.
عن الأوزاعي ، قال : « من قال
: أنا مؤمن ، فحسن ومن قال : أنا مؤمن ، إن شاء الله فحسن لقول الله عز وجل (لتدخلن
المسجد الحرام إن شاء الله آمنين)، وقد علم أنهم داخلون ».
باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه
قال معاذ بن جبل لرجل : اجلس بنا نؤمن ساعة يعني :
نذكر الله وبهذا القول كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس ، يرون أعمال البر جميعا
من الازدياد في الإسلام ، لأنها كلها عندهم منه وحجتهم في ذلك ما وصف الله به المؤمنين
في خمس مواضع ([1]) من كتابه ، منه قوله: (الذين
قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم
الوكيل)، وقوله: (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا)، وقوله: (ليزدادوا
إيمانا مع إيمانهم)، وموضعان آخران قد ذكرناهما في الباب الأول ، فاتبع أهل السنة هذه
الآيات ، وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية وأما الذين رأوا الإيمان قولا ولا
عمل فإنهم ذهبوا في هذه الآيات إلى أربعة أوجه : أحدها : أن قالوا : أصل الإيمان الإقرار
بجمل الفرائض ، مثل الصلاة والزكاة وغيرها ، والزيادة بعد هذه الجمل وهو أن تؤمنوا
بأن هذه الصلاة المفروضة هي خمس ، وأن الظهر هي أربع ركعات ، والمغرب ثلاثة وعلى هذا
رأوا سائر الفرائض والوجه الثاني : أن قالوا : أصل الإيمان الإقرار بما جاء من عند
الله ، والزيادة تمكن من ذلك الإقرار والوجه الثالث : أن قالوا : الزيادة في الإيمان
الازدياد من اليقين والوجه الرابع : أن قالوا : إن الإيمان لا يزداد أبدا ، ولكن الناس
يزدادون منه وكل هذه الأقوال لم أجد لها مصدقا في تفسير الفقهاء ، ولا في كلام العرب
، فالتفسير ما ذكرناه عن معاذ حين قال : اجلس بنا نؤمن ساعة ، فيتوهم على مثله أن يكون
لم يعرف الصلوات الخمس ، ومبلغ ركوعها وسجودها إلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
، وقد فضله النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من أصحابه في العلم بالحلال والحرام
، ثم قال : « يتقدم العلماء برتوه » ؟ هذا لا يتأوله أحد يعرف معاذا وأما في اللغة
: فإنا لم نجد المعنى فيه يحتمل تأويلهم ، وذلك كرجل أقر له رجل بألف درهم له عليه
، ثم بينها ، فقال : مائة منها في جهة كذا ، ومائتان في جهة كذا ، حتى استوعب الألف
، ما كان هذا يسمى زيادة ، وإنما يقال له : تلخيص وتفصيل ، وكذلك لو لم يلخصها ، ولكنه
ردد ذلك الإقرار مرات ، ما قيل له زيادة أيضا ، إنما هو تكرير وإعادة ، لأنه لم يغير
المعنى الأول ، ولم يزد فيه شيئا فأما الذين قالوا : يزداد من الإيمان ، ولا يكون الإيمان
هو الزيادة ، فإنه مذهب غير موجود ، لأن رجلا لو وصف ماله فقيل : هو ألف ، ثم قيل
: إنه ازداد مائة بعدها ، ما كان له معنى يفهمه الناس إلا أن يكون المائة هي الزائدة
على الألف ، وكذلك سائر الأشياء ، فالإيمان مثلها ، لا يزداد الناس منه شيئا ، إلا
كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى
لهم ، لأن اليقين من الإيمان ، فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار ،
ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم ، أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم فكيف يزداد
من شيء قد استقصي وأحيط به ؟ أرأيتم رجلا نظر إلى الناس بالضحى حتى أحاط عليه كله بضوئه
، هل كان يستطيع أن يزداد يقينا بأنه نهار ، ولو اجتمع عليه الإنس والجن هذا يستحيل
ويخرج مما يعرفه الناس.
باب تسمية الإيمان بالقول دون العمل
قال أبو عبيد : قالت هذه الفرقة : إذا أقرّ بما
جاء من عند الله ، وشهد شهادة الحق بلسانه فذلك الإيمان كله ، لأن الله عز وجل سماهم
مؤمنين وليس ما ذهبوا إليه عندنا قولا ، ولا نراه شيئا ، وذلك من وجهين : أحدهما :
ما أعلمتك في الثلث الأول ، أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام لم يكن يومئذ شيئا إلا
إقرار فقط وأما الحجة الأخرى : فإنا وجدنا الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع
ابتدائها والدخول فيها ، ثم يفضل فيها بعضهم بعضا ، وقد شملهم فيها اسم واحد ، من ذلك
أنك تجد القوم صفوفا بين مستفتح للصلاة ، وراكع وساجد ، وقائم وجالس ، فكلهم يلزمه
اسم المصلي ، فيقال لهم : مصلون ، وهم مع هذا فيها متفاضلون وكذلك صناعات الناس لو
أن قوما ابتنوا حائطا وكان بعضهم في تأسيسه ، وآخر قد نصفه ، وثالث قد قارب الفراغ
منه ، قيل لهم جميعا : بناة ، وهم متباينون في بنائهم . . . فكذلك المذهب في الإيمان
، إنما هو دخول في الدين، . . . فوجدنا أعمال البر ، وصناعات الأيدي ، ودخول المساكن
كلها تشهد على اجتماع الاسم ، وتفاضل الدرجات فيها ، هذا في التشبيه والنظر ، مع ما
احتججنا به من الكتاب والسنة فهكذا الإيمان هو درجات ومنازل ، وإن كان سمى أهله اسما
واحدا ، وإنما هو عمل من أعمال تعبد الله به عباده ، وفرضه على جوارحهم ، وجعل أصله
في معرفة القلب ، ثم جعل المنطق شاهدا عليه ، ثم الأعمال مصدقة له ، وإنما أعطى الله
كل جارحة عملا لم يعطه الأخرى ، فعمل القلب : الاعتقاد ، وعمل اللسان : القول ، وعمل
اليد : التناول ، وعمل الرجل : المشي ، وكلها يجمعها اسم العمل فالإيمان على هذا التناول
إنما هو كله مبني على العمل ، من أوله إلى آخره ، إلا أنه يتفاضل في الدرجات على ما
وصفنا وزعم من خالفنا أن القول دون العمل ، فهذا عندنا متناقض ، لأنه إذا جعله قولا
فقد أقر أنه عمل ، وهو لا يدري بما أعلمتك من العلة الموهومة عند العرب في تسمية أفعال
الجوارح عملا، ثم استشهد بالنصوص على تسمية عمل القلب واللسان عملاً، وكذلك أورد
لذلك شواهد لغوية ثم قال: فوجدنا تأويل القرآن ، وآثار النبي صلى الله عليه وسلم ،
وما مضت عليه العلماء ، وصحة النظر ، كلها تصدق أهل السنة في الإيمان فيبقى القول الآخر
، فأي شيء يتبع بعد هذه الحجج الأربع ؟ وقد يلزم أهل هذا الرأي ممن يدعي أن المتكلم
بالإيمان مستكمل له : من التبعة ما هو أشد مما ذكرنا ، وذلك فيما قص علينا من نبأ إبليس
في السجود لآدم ، فإنه قال (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) فجعله الله بالاستكبار
كافرا ، وهو مقر به غير جاحد له ، ألا تسمع (خلقتني من نار وخلقته من طين) ، وقوله:
(رب بما أغويتني)؟ فهذا الآن مقر بأن الله ربه ، وأثبت القدر أيضا في قوله أغويتني
) ، وقد تأول بعضهم قوله (وكان من الكافرين) أنه كان كافرًا قبل ذلك ، ولا وجه لهذا
عندي ، لأنه لو كان كافرا قبل أن يؤمر بالسجود لما كان في عداد الملائكة ، ولا كان
عاصيا إذا لم يكن ممن أمر بالسجود وينبغي في هذا القول أن يكون إبليس قد عاد إلى الإيمان
بعد الكفر ، لقوله رب بما أغويتني وقوله خلقتني من نار وخلقته من طين ، فهل يجوز لمن
يعرف الله وكتابه وما جاء من عنده أن يثبت الإيمان لإبليس اليوم؟
باب من جعل الإيمان المعرفة بالقلب وإن لم يكن عمل
قال أبو عبيد: قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا
في أن العمل من الإيمان ، على أنهم وإن كانوا لنا مفارقين فإنهم ذهبوا إلى مذهب قد
يقع الغلط في مثله ، ثم حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعا ، ليست من أهل العلم
ولا الدين ، فقالوا : الإيمان معرفة بالقلوب بالله وحده ، وإن لم يكن هناك قول ولا
عمل وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية ، لمعارضته لكلام الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم بالرد والتكذيب ، ألا تسمع قوله قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل
إلى إبراهيم وإسماعيل)؟ فجعل القول فرضا حتما، كما جعل معرفته فرضا ، ولم يرض بأن يقول
: اعرفوني بقلوبكم ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان، ولم يجعل
لأحد إيمانا إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به ، فقال: (يا أيها
الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله)، وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)،
وقال: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) ، يعني النبي صلى الله عليه
وسلم فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيمانا ثم سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ؟ فقال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله
في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى وزعمت هذه الفرقة : أن الله رضي عنهم بالمعرفة ولو كان
أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية ، ولا فرقت الملل بعضها
من بعض ، إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة
والبراءة مما سواها ، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب ، ولو كان هذا يكون
مؤمنا ثم شهد رجل بلسانه : أن الله ثاني اثنين ، كما يقول المجوس والزنادقة ، أو ثالث
ثلاثة كقول النصارى ، وصلى للصليب ، وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله
، لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمنا مستكملا الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين
فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول ؟ وهذا عندنا كفر لن يبلغه إبليس
فمن دونه من الكفار قط.
باب ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولا بلا عمل ، وما نهوا عنه
من مجالسهم
وقال الزهري:« ما ابتدعت في الإسلام بدعة أعز على
أهلها من هذا الإرجاء». قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، قال
: قال لي سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكرا له شيئا : لا تجالس فلانا وسماه أيضا ،
فقال : إنه كان يرى هذا الرأي والحديث في مجانبة الأهواء كثير ، ولكنا إنما قصدنا في
كتابنا لهؤلاء خاصة وعلى مثل هذا القول كان سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس ، ومن بعدهم
من أرباب العلم وأهل السنة الذين كانوا مصابيح الأرض وأئمة العلم في دهرهم من أهل العراق
والحجاز والشام وغيرها ، زارين على أهل البدع كلها، ويرون الإيمان : قولا ، وعملا.
باب الخروج من الإيمان بالمعاصي
قال أبو عبيد : أما هذا الذي فيه ذكر الذنوب والجرائم
، فإن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع : فاثنان منها فيها نفي الإيمان ، والبراءة
من النبي صلى الله عليه وسلم والآخران فيها تسمية الكفر وذكر الشرك ، وكل نوع من هذه
الأربعة تجمع أحاديث ذوات عدة فمن النوع الذي فيه نفي الإيمان : حديث النبي صلى الله
عليه وسلم : لا يزني الرجل حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن وقوله
: « ما هو بمؤمن من لا يأمن جاره غوائله » وقوله : « الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن
» وقوله : « لا يبغض الأنصار أحد يؤمن بالله ورسوله » ومنه قوله : « والذي نفسي بيده
لا تؤمنوا حتى تحابوا » وكذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إياكم والكذب ، فإنه
يجانب الإيمان « وقول عمر رضي الله عنه : لا إيمان لمن لا أمانة له وقول سعد : كل الخلال
يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب وقول ابن عمر : لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى
يدع المراء ، وإن كان محقا ، ويدع المزاحة في الكذب ومن النوع الذي فيه البراءة : قول
النبي صلى الله عليه وسلم : » من غشنا فليس منا « وكذلك قوله : » ليس منا من حمل السلاح
علينا « وكذلك قوله : » ليس منا من لم يرحم صغيرنا « ، في أشياء من هذا القبيل ومن
النوع الذي في تسمية الكفر : قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مطروا ، فقال : » أتدرون
ما قال ربكم ؟ قال : أصبح من عبادي مؤمن وكافر ، فأما الذي يقول : مطرنا بنجم كذا وكذا
كافر بي مؤمن بالكوكب ، والذي يقول هذا رزق الله ورحمته مؤمن بي وكافر بالكوكب « وقوله
صلى الله عليه وسلم : » لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض « وقوله : » من قال
لصاحبه : كافر فقد باء به أحدهما « وقوله : » من أتى ساحرا أو كاهنا فصدقه بما يقول
، أو أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ،
أو كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم « وقول عبد الله : سباب المؤمن فسوق ،
وقتاله كفر » وبعضهم يرفعه ، ومن النوع الذي فيه ذكر الشرك : قول النبي صلى الله عليه
وسلم : « أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر » ، قيل : يا رسول الله وما الشرك الأصغر
؟ قال : « الرياء » ، ومنه قوله : « الطيرة شرك ، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل
» وقول عبد الله : في التمائم والتولة : إنها من الشرك وقول ابن عباس : إن القوم يشركون
بكلبهم يقولون : كلبنا يحرسنا ، ولولا كلبنا لسرقنا فهذه أربعة أنواع من الحديث ، قد
كان الناس فيها على أربعة أصناف من التأويل : فطائفة تذهب إلى كفر النعمة ، وثانية
تحملها على التغليظ والترهيب ، وثالثة تجعلها كفر أهل الردة ، ورابعة تذهبها كلها ،
وتردها فكل هذه الوجوه عندنا مردودة غير مقبولة ، لما يدخلها من الخلل والفساد ، والذي
يرد المذهب الأول ما نعرفه من كلام العرب ولغاتها ، وذلك أنهم لا يعرفون كفران النعم
إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه ، وهو كالمخبر على نفسه بالعدم ، وقد وهب الله له الثروة
، أو بالسقم وقد من الله عليه بالسلامة ، وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب
فهذا الذي تسميه العرب كفرانا ، إن كان ذلك فيما بينهم وبين الله ، أو كان من بعضهم
لبعض ، إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله
عليه وسلم للنساء : « إنكن تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير » يعني : الزوج وذلك أن تغضب
إحداكن ، فتقول : ما رأيت منك خيرا قط « فهذا ما في كفر النعمة ، وأما القول الثاني
: المحمول على التغليظ ، فمن أفظع ما تئول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيدا ، لا حقيقة له وهذا يؤول إلى إبطال العقاب ،
لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها ، كان ممكنا في العقوبات كلها وأما الثالث : الذي بلغ
كفر الردة نفسها فهو شر من الذي قبله ، لأنه مذهب الخوارج الذين مرقوا من الدين بالتأويل
، فكفروا الناس بصغار الذنوب وكبارها ، وقد علمت ما وصفهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم من المروق ، وما أذن فيهم من سفك دمائهم ، ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب
مقالتهم وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد ، وفي الزاني والقاذف بالجلد ، ولو كان الذنب
يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: » من بدل دينه فاقتلوه « أفلا ترى أنهم لو كانوا كفارا لما كانت عقوباتهم القطع والجلد
؟ وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا)، فلو كان القتل كفرا ، ما
كان للولي عفو ولا أخذ دية ، ولزمه القتل ، وأما القول الرابع : الذي فيه تضعيف هذه
الآثار ، فليس مذهب من يعتد بقوله ، فلا يلتفت إليه ، إنما هو احتجاج أهل الأهواء والبدع
، الذين قصر علمهم عن الاتساع ، وعييت أذهانهم عن وجوهها ، فلم يجدوا شيئا أهون عليهم
من أن يقولوا : متناقضة ، فأبطلوها كلها وإن الذي عندنا في هذا الباب كله : أن المعاصي
والذنوب لا تزيل إيمانا ، ولا توجب كفرا ، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه
الذي نعت الله به أهله ، واشترطه عليهم في مواضع من كتابه فقال: (إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله) إلى قوله: (التائبون
العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر
والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)، وقال: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم
خاشعون) إلى قوله: والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون الذين يرثون
الفردوس هم فيها خالدون) ، وقال : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا
تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم
ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم قال أبو عبيد :
فهذه الآيات التي شرحت وأبانت شرائعه المفروضة على أهله ونفت عنه المعاصي كلها ، ثم
فسرته السنة بالأحاديث التي فيها خلال الإيمان في الباب الذي في صدر هذا الكتاب ، فلما
خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت بغيرها ، قيل : ليس هذا من الشرائط التي أخذها
الله على المؤمنين ولا الأمانات التي يعرف بها أنه الإيمان فنفت عنهم حينئذ حقيقته
ولم يزل عنهم اسمه ، فإن قال قائل : كيف يجوز أن يقال : ليس بمؤمن واسم الإيمان غير
زائل عنه ؟ قيل : هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله
، إذا كان عمله على غير حقيقته ، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله
: ما صنعت شيئا ولا عملت عملا ، وإنما وقع معناهم هاهنا على نفي التجويد ، لا على الصنعة
نفسها ، فهو عندهم عامل بالاسم ، وغير عامل في الإتقان حتى تكلموا به فيما هو أكثر
من هذا ، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى ، فيقال : ما هو بولد ، وهم يعلمون أنه
ابن صلبه ثم يقال مثله في الأخ ، والزوجة ، والمملوك وإنما مذهبهم في هذا : المزايلة
الواجبة عليهم من الطاعة والبر وأما النكاح والرق والأنساب ، فعلى ما كانت عليه أماكنها
وأسماؤها فكذلك هذه الذنوب التي ينفى بها الإيمان ، إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع
التي هي من صفاته ، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك ، ولا يقال لهم إلا : مؤمنون
، وبه الحكم عليهم وقد وجدنا مع هذا شواهد لقولنا من التنزيل والسنة فأما التنزيل
: فقول الله جل ثناؤه في أهل الكتاب ، حين قال : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب
لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم). واستشهد الشيخ بأدلة على ما قال،
ومنها حديث مسيء صلاته حيث قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ارجع فصل ، فإنك لم
تصل » ، حتى فعلها مرارا ، كل ذلك يقول : « فصل » ، وهو قد رآه يصليها ، أفلست ترى
أنه مصل بالاسم ، وغير مصل بالحقيقة. يراجع للمسألة الثانية والثالثة والرابعة
الكتاب لاشتماله فوائد.
باب ذكر الذنوب التي تلحق بالكبائر بلا خروج من الإيمان
قال أبو عبيد : حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «
لعن المؤمن كقتله » ، وكذلك قوله : « حرمة ماله كحرمة دمه » ومنه قول عبد الله : شارب
الخمر كعابد اللات والعزى « وما كان من هذا النوع مما يشبه فيه الذنب بآخر أعظم منه
، وقد كان في الناس من يحمل ذلك على التساوي بينهما ولا وجه لهذا عندي ؛ لأن الله قد
جعل الذنوب بعضها أعظم من بعض ، فقال : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) في أشياء كثيرة من الكتاب والسنة يطول ذكرها ، ولكن وجوهها
عندي أن الله قد نهى عن هذه كلها ، وإن كان بعضها عنده أجل من بعض ، يقول : من أتى
شيئا من هذه المعاصي فقد لحق بأهل المعاصي ، كما لحق بها الآخرون ؛ لأن كل واحد منهم
على قدر ذنبه قد لزمه اسم المعصية ، وإن كان بعضهم أعظم جرما من بعض وفسر ذلك كله الحديث
المرفوع ، حين قال : » عدلت شهادة الزور الإشراك بالله « ثم قرأ : (فاجتنبوا الرجس
من الأوثان واجتنبوا قول الزور) فقد تبين لنا الشرك والزور ، وإنما تساويا في النهي
، نهى الله عنهما معا في مكان واحد ، فهما في النهي متساويان ، وفي الأوزار والمأثم
متفاوتان ، ومن هنا وجدنا الجرائم كلها ، ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعدا
، وإن كان دون ذلك لم يلزمه قطع ؟ فقد يجوز في الكلام أن يقال : هذا سارق كهذا ، فيجمعهما
في الاسم ، وفي ركوبهما المعصية ، ويفترقان في العقوبة على قدر الزيادة في الذنب ،
وكذلك البكر والثيب يزنيان ، فيقال : هما لله عاصيان معا ، وأحدهما أعظم ذنبا وأجل
عقوبة من الآخر ، وكذلك قوله : » لعن المؤمن كقتله « ، إنما اشتركا في المعصية حين
ركباها ، ثم يلزم كل واحد منهما من العقوبة في الدنيا بقدر ذنبه ، ومثل ذلك قوله :
» حرمة ماله كحرمة دمه « وعلى هذا وما أشبه أيضا . قال أبو عبيد : كتبنا هذا الكتاب
على مبلغ علمنا ، وما انتهى إلينا من الكتاب وآثار النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلماء
بعده ، وما عليه لغات العرب ومذاهبها ، وعلى الله التوكل ، وهو المستعان.
قال أبو عبيد: ذكر الأصناف الخمسة الذين
تركنا صفاتهم في صدر كتابنا هذا من تكلم به في الإيمان هم: الجهمية ، والمعتزلة ، والإباضية
، والصفرية ، والفضلية. فقالت الجهمية: الإيمان معرفة الله بالقلب، وإن لم يكن معها
شهادة لسان ، ولا إقرار بنبوة ، ولا شيء من أداء الفرائض احتجوا في ذلك بإيمان الملائكة
، فقالوا : قد كانوا مؤمنين قبل أن يخلق الله الرسل وقالت المعتزلة : الإيمان بالقلب
واللسان مع اجتناب الكبائر ، فمن قارف شيئا كبيرا زال عنه الإيمان ، ولم يلحق بالكفر
، فسمي : فاسقا ، ليس بمؤمن ولا كافر ، إلا أن أحكام الإيمان جارية عليه وقالت الإباضية
: الإيمان جماع الطاعات ، فمن ترك شيئا كان كافر نعمة ، وليس بكافر شرك ، واحتجوا بالآية
التي في إبراهيم ( بدلوا نعمة الله كفرا) وقالت الصفرية مثل ذلك في الإيمان : أنه جميع
الطاعات ، غير أنهم قالوا في المعاصي ، صغارها وكبارها : كفر وشرك ما فيه إلا المغفور
منها خاصة وقالت الفضلية مثل ذلك في الإيمان ، أنه أيضا : جميع الطاعات ، إلا أنهم
جعلوا المعاصي كلها ، ما غفر منها وما لم يغفر ، كفرا وشركا ، قالوا : لأن الله جل
ثناؤه لو عذبهم عليها كان غير ظالم ، لقوله : (لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى)
وهذه الأصناف الثلاثة من فرق الخوارج معا ، إلا أنهم اختلفوا في الإيمان ، وقد وافقت
الشيعة فرقتين منهم ، ووافقت الرافضة المعتزلة ، ووافقت الزيدية الإباضية وكل هذه الأصناف
يكسر قولهم ما وصفنا به : باب الخروج من الإيمان بالذنوب ، إلا الجهمية ، فإن الكاسر
لقولهم قول أهل الملة ، وتكذيب القرآن إياهم حين قال : (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم) ، وقوله : (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) ، فأخبر
الله عنهم بالكفر ؛ إذ أنكروا بالألسنة ، وقد كانت قلوبهم بها عارفة ، ثم أخبر الله
عز وجل عن إبليس أنه كان من الكافرين ، وهو عارف بالله بقلبه ولسانه أيضا ، في أشياء
كثيرة يطول ذكرها كلها ، ترد قولهم أشد الرد ، وتبطله أقبح الإبطال. والله أعلم.
وهنا نهاية الاختصار، نفعني الله وإياكم به، إنه خير مسؤل، وأكرم مأمول.
والحمد لله الذي بنعمته تمم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمدٍ
وعلى آله وصحبه أجمعين.
No comments:
Post a Comment