O
/
فنّ
تعامل النبي r
مع زوجاته وأولاده وأصحابه:
قال الله تبارك وتعالى:( وإنك لعلى خلق عظيم).سورة القلم.
الحمد لله الباري المصور الخلاق،الوهاب الفتاح
الرزاق،المبتدئ بالنعم قبل الاستحقاق، وصلاته وسلامه على رسوله الذي بعثه ليتمم
مكارم الأخلاق، وفضله على كافـة المخلوقين على الإطلاق، حتى فـاق جميع البرايا في
الآفـاق، وعلى آلـه الكرام الموصوفين بكثرة الإنفاق، وعلى أصحابه أهل الطاعة
والوفاق، وعلى التابعين لهم بإحسـان إلى يوم لا ينفع النفاق، صـلاةً وسـلاماً
دائمـين مستمرينِ بالعشيِِ والإشراق.
يقول الشاعر: خلقـتَ مبرَأً
مـن كلِ عيب # كـأنك قـد خلقت كما تشـاءُ.
وأفضـل منك لم تر قطُ
عيني # وأجمل منك لـم تلد النســاءُ.
والشوقيُ في همز يته من ديوانه يقول:
زانتـك في الخلق العظيم
شمـائل # يغرى بهن ويولـع الكرمـاء.
ويقول آخرُ:
إن فـاتكم أن تروه
بالعيـون فمـا # يفوتكم وصـفــه هـذي شمـائلـه.
مكـمَّل الـذات في خلقٍ
وفي خُلُـق # وفي صفـات فـلا تُحصى فضائلـه.
فسبحان المعطي المانع، الذي جمع لنبيِنا محمد
من الصفات والخلال والأخلاق النفسيَة مع الجمال الجسدي وكمال الذات ما زانه به،
ولم يشنـه، وأعطاه من كل صفة حميدة ـ تليق بالإنسان ـ القسط الأكبر والحظ الأوفر،
ومن كل صفـة ذميمة سلَمـه عنها، فصار أسلم الناس من كل ذميم، وأبعدهم عن كلِ قبيح،
كما شهد له بذلك كله العدوُ فضلاً عن الصديـق. وفي هذا الكلام إجمال سيأتي تفصيله
ـإن شـاء الله. ـ وفيه أيضاً إشـارة إلى قول الحبيب، خليل ربِ العلمين: { اللهم
كما حسنت خلـْقي فحسِن خـلقي]. فلله الحمد في الآخرة والأولـى على ما مـنَّ به
وأعطى، وكما ينبغي بجـلال وجهـه وقديم سلطانه.
وقبل أن أدخل في صميم الموضوع الذي هـو:
فـنُ تعامل المصطفى مع زوجـاته وأولاده وأصحابه y
يحسن بعض التنبيهات والإشـــارات:
الخُـلُق ـ بضم المعجمة والمهملة
ـ مجبول ومكتسب، فمن الأول: الخُلُقـان اللذان طبع الله الأشج عبد القيس من الحلم والأنـاة،
كما سأل عن ذلك رسول الله بقوله: أخُـلُقين تخلَقْـتُ بهما أم جُبِـلت عليهما؟ قال:[
بل جُبلت عليهما]. وقد جُـبِل نبيُنـا بالحظ الأوفر من كل الأخلاق والخـلال. وأخـلاق
أُخَـر مكتسبة: فيصير الإنسان عالمًا بالتعلُم، وخـلوقـاًً بالفضائـل متصفاً بها با
لتختلُق، وحليماً با لتحـُلم، وصبوراً بالتصبُـر، صادقاً بتحرِيـه، متأنيا ًبالتأنِي
واكتساب ذلك. وقلْ مثل هذا في جميع الصفات. وفي هذا يقول ابن كثير عند تفسيره لقوله
تعالى: ( وإنك لعلى خلق عظيم). بعد إيراده تفسير ابن عباس وعائشة ـ رضي الله عنهما
ـ للآية وتلاميذهم من التابعين ـ رحمهم الله ـ يقول: " ومعنى هذا، أنه صار امتثال
القرآن ـ أمرا ونهياً ـ سجيَةً له، وخلُـقاً تطبَـعه، وترك طبعه الجبلِي، فمهما أمره
القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم؛ من الحياء
والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكل خلق جميل كما ثبت في الصحيحين عن أنس ـ رضي الله
عنه ـ قال: خدمت رسول الله r
عشر سنيـن فما قال لي: [أفِ] قطُ، ولا قال لشيء فعلته:[ لمَ فعلته؟ ]، ولا لشيء لم
أفعله: [ أ لا فعلتـه؟ ]، وكان r
أحسن الناس خلقا، ولا مسست خزًا ولا حريرًا
ولا شيئاً كان ألـين من كفِ رسول الله r
، ولا شممت مسكا ولا عطرًا كان أطـيب من عرَق
رسول الله r
".ا.هـ . وساق عدة أحاديث في ذلك؛ منها عن البراء. أما عن عائشة فقولها:"
ما ضرب رسول الله r بيده خادما له ولا امرأته،
ولا ضرب شيئا قطُ إلا أن يجاهد في سبيل الله، وأنه ما اختير بين شيئيـن قطُ إلا كان
أحبهما إليه أيسرهما ما لم يكن إثما". وأنه كذلك: [ما انتقم لنفسه من شيء إلا
أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله عز وجل].
ومن المحصل
هنا: أن الخُلُق ـ سواء المكتسب منه أو ما يُجبَل عليه الإنسان ـ لا يطلق على العبد
حتى تكون دينا له وديدنه، أو تصير طبعه وسجيته؛ فتقوم بصاحبها على سبيل الرسوخ،
وعليه: يذم أو يمدح.
ويُطلق الخُلُق كذلك على: التمسك بأحكام الدين وآدابه
فعلا وتركا،كما أشار إلى ذلك تفسير ابن عباس للآية.
على الناظر في نصوص الوحيين أو الكاتب إذا
أراد أن ينظر: "شمائل المصطفى" مثلا، أو شيئا من تعامله مع زوجاته
وأولاده والناس أجمعين أن ينظر إلى: كل أمر ونهي الصادر منهما؛ أي الكتاب والسنة،
وإلى جميع مجالات السنة، أعني به: السنة القولية والفعلية والتقريرية ثم الصفات
الخلقية والخُلُقيَة، وهذا الذي ذكرت:هو ـ
فقط ـ الذي يضمن للبحث أن يتصف بالتكامل في أطرافه، وأن يكون شاملا لجميع صفات
الرسول وخلاله، وهذا السبب نفسه هو الذي دفع الشيخ صالح أحمد الشامي إلى تسطير
كتابه النفيس الذي أسماه: "من معين الشمائل". حيث قال في
مطلعه:"ولكنا عندما ننعم النظر، فإنا نستطيع تقسيم الشمائل إلى ثلاثة أنواع:
1.
شمائل إيجابية فعلية؛
من أمثلتها الشجاعة والحياء. وهذا النوع هو الذي اقتصر عليه الإمام الترمذي.
2. شمائل
إيجابية دل عليها قوله: وهو ما حضَّ عليه من أعمال البرِ مما
لا يظهر في الوقائع المادية؛ وإنما تظهر آثاره من خلال السلوك العام، وقد لا تظهر
بعض الأحيان كالإخلاص؛ فقد حضَّ عليه كثيرًا، وحذّر من فقدانه، وهذا الأمر ليس
يظهر في الوقائع المادية، إنما يرجع إلى نيّة الإنسان. فعندما يأمر به فلا بد أن
يكون ملتزما بـه وفاعلا لـه، فما كان r
ليأمر بشيء ثم لا يفعله. ـ أبدًا ـ وهذا السلوك
لا شك أنه يدخل في الشمائل.
3. شمـائل
سلبيّة: ويتمثل هذا النوع في الامتناع عن سيِئ الأخلاق. وهذا جانب
مهم في الشمائل، ولم يذكره أحد. وفي كتابنا هذا ستظهر هذه الجوانب ـ إن شاء الله ـ
واضحة المعالم؛ بحيث يستكمل الهيكل العام للشمائل الكريمة بنيانه. ومثاله: الغيبة،
والنميمة، والحسد، والظلم من الأقوال والأفعال وغير ذلك. وقال أيضا:" وقد
انصرفت معظم كتب الشمائل إلى العناية بوصف جسمه، هيئته تفصيلا، والآداب التي كان
يستعملها؛ فالإمام الترمذي اقتصر على ذكر: الكلام، الضحك، المزاح، البكاء،
التواضع، الحياء، والخلق. وابن كثير اقتصر على ذكر: الأخلاق،والكرم،
والمزاح، والزهد، والشجاعة. حينما اقتصر البغويّ ـ وكتابه من أوسع كتب
الشمائل ـ على حسن الخلق، والحلم، والعفو، والرفق والرحمة والشفقة، والبكاء،
والضحك، والحياء، والشجاعة، والجود، والتواضع، والخوف. ولعل الذي دفعهم إلى ذلك ـ
هو ـ قصرهم الشمائل على الجانب الإيجابي الفعلي، فهم ـ في الغـالب ـ يريدون لكل
عنوان واقعة مادية يستشهد لها عليه. والخلق الذي لا يتوفر له شاهد تركوه".
وقد ظهر من كلامه فائدة كتابه.
فصل
في بيان تعامله مع الناس، وقبل ذلك: تعامله مع ربه:
وقبل الدخول في
الموضوع، يجب التنبيه على هذا العنوان، وقد أوضح ذلك وأوجز
ابن جُزَي الكلبي [ ت:741هـ .] في تسهيله عند تفسير قول الله تعالى:
(وإنك لعلى خلق عظيم ) فقال:" وهذا ثناء على خلق رسول الله
r
، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ :" كان خلق النبي r
القرآن" تعني: التأدب بآدابه،
وامتثال أوامره. وعبّر ابن عباس عن الخلق: بالدين والشرع؛ وذلك رأس الخلق؛ وتفصيل
ذلك: أن رسول الله r جمع كل فضيلة، وحاز كل خصلة جميلة، فمن ذلـــك:
شرف النسب، ووفور العقل، وصحة الفهم، وكثرة العلم، وشدة الحياء، وكثرة العبادة
والسخاء والصدق والشجاعة والصبر والشكر والمروءة والتودّد والاقتصاد والزهد
والتواضع والشفقة والعدل والعفو وكظم الغيظ وصلة الرحم، وحسن المعاشرة، وحسن
التدبير، وفصاحة اللسان، وقوّة الحواس، وحسن الصورة،وغير ذلك، حسب ما ورد في
أخباره وسيره صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: [ بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق]. وقال الجنيد: " سمى عظيما: لأنه كان لم تكن
همته سوى الله عز وجل"." انتهى كلامه. ـ رحمه الله.ـ وللشيخ السعدي عند
تفسيره للآية كلام جميل، وهو قوله: " وحاصل خلقه العظيم: ما فسّرته به أم
المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ لمن سألها عنه، فقالت: " كان خلقه
القرآن". وذلك نحو قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن
الجاهلين). (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا
غليظا لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)
الآية. ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص
عليكم بالمؤمنين رءوف رّحيم). وما أشبه ذلك من
الآيات الدالات على اتصافه r
بمكارم
الأخلاق، والآيات الحاثات على الخلق العظيم، فكان له منها أكملها وأجلّها، وهو في
كل خصلة منها في الذروة العليا، فكان r
سهلا ليّنا ، مجيبا لدعوة من دعاه، قاضيا لحاجة من استقضاه، جابرا لقلب من سأله،
لا يحرّمه ولا يرده خائبا، وإذا أراد أصحابه أمراً وافقهم عليه، وتابعهم فيه
إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبدّ به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم،
وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيـئهم، ولم يعاشر جليـساً لـه إلا أتمّ عشرة
وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطـوي عنه بشره، ولا
يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشِـيـرِه
غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال r
". وقبل ذلك قال في تفسيره لقوله تعالى: (خذ العفو ) إلى آخر الآية. "
هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل
به الناس أن يؤخذ بالعفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال
والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم،
بل يشكر من كل أحد ما قابله به من جميل، أو ما دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض
طرفه عن نقصهم، ولا يتكبّر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير
لفقره، بل يعامل الجميع باللّـطف، والمقابلة بما تقتضيه الحال، وتنشرح له صدورهم.
( وأمر بالعرف ) أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد،
فاجعل ما يأتي إلى الناس منك: إما تعليم علم، أو حث على الخير من صلة رحم، أو برّ
الوالدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب أو معاونة على برّ
وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينيّة أو دنيوية. ولما كان لا
بد من أذيّة الجاهل، أمر الله تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته
بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فصِلْـه، ومن
ظلمك فاعدل فيه، وأما ما ينبغي أن يقابل العبد شياطين الإنس والجنّ فقال تعالى: (
وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعـذ بالله ) الآية. وأما كلامه عند تفسيره لهذه
الآية: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم) الآية. ففي غاية النفاسة، وهو قوله:" (عزيز
عليه ما عنتم) أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم. ( حريص عليكم) فيُحبّ
لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدا يتكم إلى الإيمان، ويكره
لكم الشرّ، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. ( بالمؤمنين رءوف رحيم) أي: شديد الرأفة
والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم.
ولهـذا كان حـقّه مقدّما على سائر حقوق
الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره وتوقيره. (فإن) امنوا فذلك
حظهم وتوفيقهم، وإن ( تولَـوا) عن الإيمان والعمل فامض على سبيلك، ولا تزل في
دعوتك، ( وقل حسبي الله) أي: الله كافـيّ في جميع ما أهمّـني، ( لا إلـه إلا هو)
أي: لا معبود بحق سواه" ا.هـ .كلامه رحمه الله. فهذه بعض أخلاق نبينا! فهل من
مؤمن به، مصدق له؟ ! فيفوز!!!.
وأما البغوي ـ رحمه الله ـ فبعد ذكره للآية أسند
أحاديث بسنده إلى النبي r ، فيها قسط كبير من
تعامله r
مع الناس، ومضمونها: * أنه قضى حاجة المرأة التي عرضت له، بل وقال لها اجلسي في أيّ
طريق من سكك المدينة شئـتِ أجلس إليك، ففعلت، فقعد إليها حتى قضـتْ حاجتها. * وأنه
إذا صافح رجلا لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع. * وأنه ما ضرب شيئا قطّ
... * وأن أعرابيا جذبه بردائه جذبة شديدةً حتى نظـر أنس رضي الله عنه إلى صفحة
عاتق رسول الله r قد أثّـرت بها البرد من شدّة جبذته، ثم قال: يـا
محمد! مـرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفَتَ إليه رسول الله r
ثم ضحك ثم أمر له بعطـاء. وهذه ذكرها بعد ذكر: حديث عائشة وأثر ابن عباس ـ رضي
الله عنهما ـ المتقدمان في تفسير الآيـة. ثم ختم التفسير بهذه السنن القوليّة: *
[أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة الخلق الحسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء].
* [إن أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسُن الخلق]. * [وإن المؤمن ليدرك بحسن
خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار]. فسبحان من جعل أقواله r
وأعماله وخـلاقه موازين
توزن بها الأقوال والأخـلاق والأعمـال؛ وجعله أشد الناس تواضعا،
وأحسنهم بشرًا، يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، يخصف نعله، ويخدم أهله ونفسه،
وشرب من القربة البالية، وحمل مع أصحابه اللّبِنَ في بناء المسجد، لا يعيب على
الخدم ولا يوبِّـخهم كما قال أنس:" ما عاب عليّ شيئا قطُّ" رواه مسلم.
يوقِّر الكبار، ويتواضع للصغار، وإن مرّ على صبيان سلّم عليهم، ورأى أبا عمير رضي
الله عنه ـ وكان صبِيّا ـ فقال مداعبا له: [يا أبا عُمـيْر ما فعل النُّغَـير؟!].
كريم النفس، سخي اليد، غزير الجود، ينفق سخاءًا وكرما وتوكُّلاً، ما سئل شيئا من
متاع الدنيا مما يملك فـرَدَّ طالبَه، يقول أنس:" ما سئل رسول الله r
على الإسلام شيئا إلا أعطاه. رقيق القلب
مليء بالرحمة، إذا سمع بكاء صبيّ في الصلاة تجوّز مما يعلم من شدّة وجْدِ أمِّـه
من بكائه. يزور البقيع فيتذّكر الآخرة ويبكي. كامل العقل، سامي الأخلاق، لم يضرب
أحدًا بيده كما قالت عائشة. أعفّ الناس وأشرفهم، لم تمس قطُّ يدُه امرأة لا تحلّ له، كامل الوفاء مع
أهل بيته وصحابته، كان يذبح الشاة ثم يقطِّعها باعثا بها إلى صواحب خديجة وفاءًا لها،
وصلى على قتلى أحُدٍ بعد ثماني سنين من الغزوة كالمودّع لهم، يكرم صحابته ولا
يؤْثر لنفسه شيئا دونهم؛ يقول عثمان: " كان رسول الله r
يواسينا بالقليل والكثير". وسع الناس
بخُلُقه، حليم لا يجزي بالسيِّئة، ولكن يعفو ويصفح، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها؛
يجذبه الأعرابي يريد مالا؛ فيلتفت إليه مبتسما ويعطيه سؤْله، عفا ـ بعد القدرة ـ
عمّن سحره، ولم يثربْ على من وضع السمّ في طعامه، وصفح عمن قاتله؛ وقال لهم في فتح
مكة:[ اذهبوا فأنتم الطلقاء]. لـيِّن الجانب دائم البشر؛ يقول جرير ـ رضي الله عنه
ـ "ما رآني رسول الله r إلا تبسم" رواه
البخاري. يتفقّد أصحابه، ويؤْثِر أهل الفضل بأدبه،جميل المباشرة،حسَنَ الصحبة، يصل
ذوي رحمه، ولا يجفو على أحد، عفَّ اللسان، لم يكن فاحشا ولا متفحِّـشا، بل كان أشد
حياءًا من العذراء في خدرها، خلالُه على سجِـيّته، لا يحبّ تعظيم الألفاظ ولا
تشدُّقها؛ جاء ناس إليه فقالوا: " يا رسول الله! يا خيرنا وابن خيرنا!!
وسيدنا وابن سيّدنا!!! فقال:[ يا أيّها الناس! قولوا بقولكم، ولا يستهْوِيـنكم
الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحبّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلـني
الله عز وجل]. رواه النسائي. وفي طعامه لضيفه لا يتكلف موجودا، ولا يطلب معدوما.
أحـبّه الصحابة حبّا جماً؛ إن قال: استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره؛ يقول
أنس t
: "لم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله r
". جمع من الأخـلاق أطْيبها، ومن الآداب أزكاها؛ قال شيخ الإسلام:" لا
تُحفَظ له كِذْبةٌ واحدةٌ، ولا ظلمٌ لأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم
بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من أمن وخوف وتمكُنٍ وضعف". هذه الخلال انتقيت
أغلبها من خطبة الشيخ عبد المحسن القاسم الإمام والخطيب بمسجد رسول الله r
بتصرّف وتقديم وتأخير. قال ابن قدامة المقدسي
في:{ مختصر منهاج القاصدين}:" نقتصر في هذا الباب على شيء من آداب رسول الله r
وأخلاقه لنجمع مع جمع الآداب تأكيد
الإيمان بمشاهدة أخلاقه الكريمة التي يشهد آحادها بأنه: أكرم الخلق وأعلاهم
مرتبة وأجلُهم قدرًا، فكيف بمجموعها؟!" وذكر قدَرًا طيِّبا من صفاته
وأخلاقه وصنوفا من معاملاته، ومنها: * وكان يجيب دعوة المملوك، وعود
المرضى، ويمشي وحده، ويردف خلفه، ويقبل الهدية، ويأكلها، ويكافأ عليها، ولا يأكل
الصدقة، ولا يجد من الدقل (أي: رديء التمر) ما يملأ بطنه، ولم يشبع من خبز برّ
ثلاثة أيام تباعًا. *وكان يعْصِبُ على بطنه الحجر من الجوع. *يمزح ولا يقول إلا حقًا،
يضحك في غير قهقهة، لا يمضي عليه وقت في غير عملٍ لله تعالى، أو فيما لا بد منه من
صلاح نفسه. *ومن صفته في التوراة: محمد رسول الله، عبدي المختار، ليس بفظٍٍّ، ولا
غليظٍ، ولا صخَّـاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيّئة السيّئةَ ولكن يعفو ويصفح.
*وكان من خلقه: أنه يبدأ بالسلام من لقيه، ومن فارقه بحاجة صابره حتى يكون هو
المنصرف، وما أخذ أحد يده فأرسل يده، حتى يرسلها الآخذ. *وكان يجلس حيث ينتهي به
المجلس مختلطا بأصحابه كأنه أحدهم، فيأتي الغريب فلا يدري أيّهم هو حتى يسأل عنه.
*وكان أصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمّـةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرة، ومن رآه
هابه، ومن خالطه معرفة أحـبّه، وكان أصحابه إذا تكلموا في أمر الدنيا تحدّث معهم،
وكانوا يتذاكرون أمر الجاهليّة فيضحكون ويبتسم[1].
*وكان
أشجع الناس. قال بعض أصحابه: كنا إذا احمر[ت الحدق، واشتد] البأس اتقينا برسول
الله r
". ا.هـ .
ومن كتاب شيخنا الشيخ عبد المحسن العباد{ من
أخلاق الرسول الكريم r } قال ـ حفظه الله
ورعاه وخلّل حياته بالتوفيق ـ فيه:"
... الحديث عن أخلاقه الفاضلة، وسجاياه الحميدة في جميع مراحل حياته r
، فقد كان أحسن الناس خلقا، اجتمع فيه من أوصاف المدح والثناء ما تفرّق في غيره،
قد صانه الله سبحانه وحفظه من أدنى وصف يعاب صاحبه، كل ذلك حصل له من ربه فضلا
ومنة قطعاً لألسنة أعدائه الذين يتربّصون به، ويقفون في طريق دعوته، مؤذين له،
محذّرين منه، أحبّ شيءٍ إليهم تحصيل شيء يعيبونه به، وأنّى لهم ذلك. فقد نشأ r
من أول أمره إلى آخر لحظة من لحظات حياته
متحليا بكل خلق كريم، مبتعدا عن كل وصف ذميم، فهو أعلم الناس، وأنصحهم، وأفصحهم
لسانا، وأقواهم بيانا، وأكثرهم حياءً، يُضربُ به المثل في الأمانة والصدق والعفاف،
أدّبـه الله فأحسن تأديبه، فكان أرجح الناس عقلا، وأكثرهم أدبا، وأوفرهم حلما،
وأكملهم قوّة وشجاعة، وأصدقهم حديثا، وأوسعهم رحمة وشفقة، وأكرمهم نفسا، وأعلاهم
منزلة. وبالجملة فكل خلق محمود ـ يليق بالإنسان ـ فله r
منه القسط الأكبر، والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه، وأبعدهم عنه،
شهد له بذلك العدوّ قبل الصديق".
الشهادات التي شهد له بها الموالون
والمعادون، الدالة دلالة بيّـنة على تمسُّـكِه بالأخلاق الحسنة قبل أن
يبعثه الله تعالى، وذلك معلوم من الدين بالضرورة:
1. شهادة زوجه خديجة:
ـ رضي الله عنها ـ لمّا أوحى الله إليه في
غار حِراء لأول مرّة ورجع إلى خديجة ـ رضي الله عنها ـ أخبرها وقال:[ لقد
خشـيت على نفسي]. فقالت له: "كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك
لتصل الرحم، وتحمل الكَـلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
رواه البخاري.
2. شهادة كـفّار قريش عند
بنائهم للكعبة: ولمّا قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة النبي r
تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم
الباب، فكان أول داخل رسول r ففـرحوا جميعا، وقالوا: جاء الأمين، جاء
محمد، وقد كانوا يلقّبـونه بلقب: الأمين؛ لِـما يعلمونه من أمانته صلى الله
عليه وسلم.
3. شهادة كفـار قريش بصدقه:
ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه: (وأنذرْ عشيرتك الأقربين)
صعد إلى الصفا، فجعل ينادي يـا بني فِـهر، يـا بني عدي ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا
فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ماهو فجاء أبو لهب وقريش
فقال:[أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقـيّ؟ ]
قالوا:نعم، ماجربنا عليك إلا صدقا. قال:[فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد] فقال
أبو لهب: تبًالك ألهذا جمعتنا؟.
4. شهادة أبي جهل بصدقه r
: روى الحاكم بسنده
على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي r
إنا لانكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله :(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون
فإنهم لايكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) وروي أن الأخنس بن شريق دخل على
أبي جهل فقال:ياأبا الحكم أخبرني قال عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا من
قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا؟فقال أبو جهل:ويحك والله إن محمدا لصادق،وما كذب محمد
قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي بالسقاية والحجابة، والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟
وقال:تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف فأطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا
فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الرٌكَب، وكنا كفـرسي رهان قالوا:منا نبي ينزل عليه
الوحي من السماء؛فمتى ندرك هذه؛ والله لانؤمن به ولا نصدقه . فمنعهم الكبر والحسد
عن الإيمان به.
5.شهادة أبي سفيان
بين يدي هرقل ملك الروم بصدق النبي r
ووفائه: ففيما رواه البخاري عن ابن عباس t
في حديث هرقل مع أبي سفيان وركب من قريش؛فيه:أن هرقل سأله:"بمـاذا
يأمركم؟"
فأجاب أبو سفيان قلت:"يقول اعبدوا الله
وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا مايقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق
والعفاف والصلة .فقال للترجمان: قل له:" ...وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه
يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة، ويأمركم بالصلاة والصدق
والعفاف، فإن كان ما تقوله حقا فسيملك موضع قدمـيّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج
ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن
قدميه. ومحل الشاهد من القصة: أن أبا سفيان بن حرب من أشد أعدائه في ذلك الوقت
وذلك اليوم ومع ذلك شهد له بالصدق؛وأنهم لا يتهمونه بالكذب، وبالوفاء وأنه لا
يغدر. والنقطتان الأخيرتان جاءتا في جواب هذين السؤالين؛ هما: "فهل تتهمونه
بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ وقول الهرقل: "فهل يغدر؟". وقد علّق الهرقل
على جواب أبي سفيان للسؤالين بقوله: "وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك
الرسل لا تغدر...".[2]
6. شهادة السائب المخزومـي
للنبي r
بحسن المعاملة والرفق قبل النبوّة: روى أبو داود وغيره أن السائب كان شريك النبي r
قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال:" مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا
تماري". وفي لفظ أنه قال له:" كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا
تداريني ولا تماريني". وفي آخر:" كنت شريكي ونعم الشريك، كنت لا تداري
ولا تماري".
7. شهادة عبد الله بن
السلام t
بصدقه r
: روى أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن السلام t
قال: "لما قدم النبي r المدينة كنت ممن انجفل،
فلما تبيّنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، فسمعته يقول: [أفشـوا السلام،
وأطعمـوا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلّـوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة
بسلام].
8. شهادة مكرز بن حفص
بن الأحنف للنبي r
بالوفاء في جميع مراحل حياته: كان رسول الله r
عام الحديبيّة قد أبرم صلحا بينـه وبين قريش على أن يرجع ويعتمر من العام المقبل،
ومن الشروط التي اشترطتها قريش على رسول الله r
أن يدخل مكة بسلاح الراكب فقط(السيوف مغمدة)، فلما قدم r
في عمرة القضاء استعدّ بالخيل والسلام لا ليدخل بها الحرم، وإنما لتكون في متناول
يده لو نكثت قريش، وعندما قرب r من الحرم بعث بها
إلى يأجج، وكان خبر ذلك السلاح قد بلغ قريشا، فبعثـتْ مكرزَ بن حفص بن الأحنف في
نفر من قريش إلى رسول الله r فقالوا:" يـا
محمد! مـا عُرفـت صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد
شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر، فقال:{ إني لا أدخل عليهم بالسلاح، وقد
بعثنا به إلى يأجج}. فقال مكرز: "بهذا عرفناك بالبرّ والوفاء". انتهى من
الشيخ بتصرّف يسير جدًا.
فلو لم تردْ هذه
الشهادات وغيرها في بيان: صدقه وأماته وعفافه وغير ذلك من صفاته الحميدة لكفاه
وكفاه قمل الله له وعنه: (وإنك لعلى خلق عظيم). قال الشيخ كذلك: " قد أخبر
سبحانه في هذه الآية الكريمة عما كان عليه المصطفى من أخلاق فاضلة، ووصَف خلُقه
بأنه عظيم، وأكّد ذلك بثلاثة أشياء:
1.
بالإقسام عليه بالقلم
وما يسطرون.
2.
وتصديره بإنّ في (وإنّك
)الآية.
3.
وإدخال اللام على
الخبر في ( لعلى )الآية. وكلها من أدوات
تأكيد الكلام.
قال العزّ ابن عبد السلام في
بداية السول في تفضيل الرسول:" واستعظام العظماء للشيء يدلّ على إيغاله في
العظمة، فما الظنّ باستعظام أعظم العظماء؟!!!". وكلامه هذا جاء بعد ذكره قول
الله تعالى في حق نبيّنا r : (وإنك لعلى خلق
عظيم). وقال أيضا: "............ فما من معرفة ولا حالة ولا عبادة ولا مقالة
ولا شيء يُتقّرب به إلى الله عز وجل مما دلّ عليه رسول الله r ودعا إليه إلا وله أجر من عمل به إلى يوم
القيامة، ولا يبلغ أحد من الأنبياء إلى هذه المرتبة، وقد جاء في الحديث:{ الخلق
عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله}.[3]
فإذا كان قد نفع شطر أهل
الجنة، وغيره من الأنبياء إنما نفع جزءا من أجزاء الشطر، كانت منزلته r
في القرب على قدر منزلته في النفع، فما من عارف من أمته إلا وله r
مثل أجر معرفته مضافا إلى معارفه r ، وما من ذي حالة من
أمته إلا وله r
مثل أجره على حاله مضموما إلى أحواله r
، وما من ذي مقال يُتقرب به إلى الله عز وجل إلا وله r
مثل أجر ذلك القول مضموما إلى مقالته وتبليغ رسالته، وما من عمل من الأعمال
المقربة إلى الله من صلاة وزكاة وعتق وجهاد وبر ومعروف وذكر وصبر وعفو وصفح
.........إلا وله r مثل أجر عامله
مضموما إلى أجره على أعماله، وما من درجة علـيّة، ومرتبة نسـيّة نالها أحد من أمته
بإرشاده ودلالته إلا وله r مثل أجرها مضموما
إلى درجته r
ومرتبته، ويتضاعف ذلك بأن من دعا من أمته إلى هدى أو سن سنة حسنة كان له أجر من
عمل بذلك على عدد العاملين، ثم يكون ذلك المضاعف لنبيّنا محمد r
؛ لأنه دل عليه وأرشد إليه. ولأجل هذا بكى موسى عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء
بكاء غبطة...........ولم يبك حسدا". ا.هـ .
ولبّ كتاب الشيخ عبد
المحسن الذي هو: من أخلاق الرسول الكريم......يبتدئ من ص :49 ـ إلى آخر الكتاب،
حيث ابتدأ الشيخ ـ حفظه الله ـ بذكر سبع آيات تنوِّه وتدل على أن الله عز وجل تفضل
على النبي r
بتوفيقه للاتصاف بمكارم الأخلاق....وذكر كذلك أنه سبحانه وتعالى أثنى على النبي r
ونوّه بذكره بالذي وفقه من التحلي بجميل الصفات. وعلّق على الآيات بتعاليق جياد؛
والآيات هي:#* ــــــــــــــــــــــ #*
ثم أردف ذلك بذكر أخلاق الرسول r
من سنته وأقوال صحابته y ، وعدد هذه الأحاديث
والآثار ما يقرب من: 60أثرا وحديثا. وقبل أن يبدأ في سرد هذه الأحاديث قدّم بمقدمة
نفيسة بيّن فيها أن فضل الله على النبي r
كان عظيما، وأنه اختار له أصحابا؛ هم خير هذه الأمة، وأنهم أوقفوا حياتهم في تبليغ
دعوته... وورِثوا عن النبي r ما جاء به من الحق،
ثم ورّثوه لمن جاء بعدهم..........حتى هيأ الله له رجالا قاموا بتدوينه؛ منهم بل
على رأسهم الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما، فقد أفنوا أعمارهم في تدوين سنته عموما،
وتدوين ما يتعلق بأخلاقه ومزاياه على سبيل الخصوص، فمنهم من أفرد ذلك بالتأليف،
ومنهم من عقد له أبوابا خاصة ضمن المؤلفات العامة؛ أورد فيها ما يتصل: بخوفه r
ورجائه وخشيته لربه عز وجل، وجوده وإيثاره، وحيائه، ووفائه، وصدقه، وأمانته،
وإخلاصه، وشكره وصبره، وحلمه وكثرة احتماله، ورفقه بأمته، وحرصه على التيسير
عليها، وعفوه وشجاعته، وتواضعه، وعدله، وزهده وقناعته، وصلته لرحمه، وكثرة تبسمه،
وعفتع وغيرته، إلى غير ذلك من آحاد حسن خلقه r
. ثم قال:
تفصيل
القول في بعض أخلاقه:
هذه الأخلاق التي أشرت إلى بعض آحادها يحتاج
تفصيلها وبسط القول فيها إلى عدة محاضرات؛ أما المحاضرة الواحدة فلا تكفي إلا
الإشارة إلى بعض تلك الأخلاق والمزايا الحميدة التي أوتيها r
:
1. جوده
وكرمه r
:
وذكر تحته 11حديثا وأثرا من الأمثلة التطبيقية على ذلك. ومن تعليقات الشيخ
الجميلة، قوله:
وجوده في العطاء لبعض الناس إنما هو لتأليفهم
على الإسلام، فكثيرًا ما كان يخصّ حديثي عهد بالإسلام بوافر العطاء دون من تمكن
الإيمان في نفوسهم، ففي غزوة حنين أعطى أكابر قريش المئات من الإبل، ومنهم صفوان
بن أميّة، وهو القائل ـ كما في صحيح مسلم ـ :" لقد أعطاني رسول الله r ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح
يعطيني حتى صار من أحبّ الناس إليّ".
2. تواضعه
وقربه للناس: سما النبي r
بأخلاقه وصفاته إلى منزلة لا يساويه فيها غيره من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك
كان أشد الناس تواضعا، وأقربهم إلى الضعيف والمسكين، وأبعدهم عن الكبر
والترفع. ........... وذكر الشيخ 13حديثا
وأثرا كلها تدل على تواضعه، وكان يعلق على الحديث بتعليق جيّد. ومنه: قوله:"
ومع هذا التواضع والخلق العظيم الذي تفضل الله به على عبده ورسوله وخليله محمد r
كان أصحابه لا يملئون أعينهم بالنضر إليه إجلالا واحتراما له r
يقول عمرو بن العاص:" ما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله r
ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه
ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه". رواه مسلم.
3. رحمته
r بأمته ورفقه بها وشفقته عليها: وذكر تحته 12حديثا وأثرا معلقة عليها.
4. عفوه
وحلمه r
: وذكر 4 أمثلة تطبيقية له من الأحاديث والآثار.
5. نصحه
r
في الدعوة إلى دين الله تعالى:
وذكر 7أحاديث.
6. قوّته
r
وشجاعته: ذكر تحته 6أحاديث، أردفها بتعليقات
ماتعة ونفيسة. ثم ذكر الشيخ: حق النبي r
على أمته وحق أمته عليه، وبه ختم المحاضرة.
فرع:
لما كان السفر قطعةً من العذاب؛ وأنه يمنع أحدكم
طعامه ونومه، فإنه استحق أن يكون مظنة لتغيّر الطبائع والأخلاق، فكثير من الناس
إذا صحبته حال السفر تجلى لك حقيقة حاله، قال أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي
في مختصر منهاج القاصدين:"وينبغي للمسافر تطييب الكلام، وإظهار محاسن
الأخلاق، فإن السفر يخرج خفايا الباطن، ومن كان في السفر الذي هو مظنة الضجر حسَنَ
الخُلُق، كان في الحضر أحسن خلقًا. وقد قيل: إذا أثنى على الرجل معاملوه في الحضر
ورفقاؤه في السفر فلا تشكوا في صلاحه".[4]
أما رسولنا r
فلم تزده أسفاره إلى الحج والغزوات إلا إظهارًا لبعض خلاله حيث جعلت بعض المعنويات
محسوسات، "فهو ـ r ـ أصدق الناس،
وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من أمن وخوف، وتمكن وضعف".قاله
شيخ الإسلام. رحمه الله.
ففي الحج علّم ويسّر ونوّع في ذلك أساليب الخطاب
وطرق التعليم. وسأحيل القارئ الكريم إلى مليء؛ إذْ المحال إلى مليء مأمور
بالإتْباع، فإن فيصل البعداني ـ حفظه الله ـ في كتابه: [أحوال النبي r
في الحج مع ربه وأمته وأهله]أفاد كثيرًا فيه
[1] رواه الترمذي.
ورقمه:(2850). وذكر المباركفوري في شرحه للحديث أنه من جملة ما يتحدّثون به؛ أنه
قال واحد: ما نفع أحد صنمه مثل ما نفعني، قالوا: كيف هذا؟ قال: صنعته من الحيس،
فجاء القحْط، فكنت آكله يوما فيومًا، وقال آخر: رأيت ثعلبين فجاءا، وصعدا فوق رأس
صنم لي وبالا عليه، فقلت:
أربّ يبول الثعلبان برأسه # لقد
ذلّ من بالت عليه الثعالب.
قال الترمذي: هذا حديث حسن
صحيح. وقد رواه كذلك مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد
وابن خزيمة.
[2] والشيخ ـ حفظه الله ـ ذكر حديث هرقل مع أبي
سفيان بطوله كما في البخاري، أما هذا التقطيع له فمنّي رجاء الاختصار. فمن أراده
بطوله فهو في بدء الوحي في البخاري.
[3] قال
الألباني ـ رحمه الله ـ معقّبًا كلامه هذا" قلت: الحديث ضعيف الإسناد جدًا،
ولكن يغني عنه هنا حديث جابر t عن النبي r
قال: {خير الناس أنفعهم للناس}. وهو صحيح.
No comments:
Post a Comment