إطلالة
عن موضوع
مقام العبودية والرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
وبيان موقف
الفرق المنتسبة إلى الإسلام منهما
فكرة الموضوع
ورد في جمعٍ كثيرٍ من
النصوص الشرعية لفظـتـا "عبده ورسوله" منسوبة إلى نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم، وهاتان اللفظتان لهما مدلول ومقتضى، فجمعًا لهذه النصوص في بحث واحد
ليتبين فقهُها، ومحاولة لاستخراج مقتضياتٍ لكلٍّ منهما، ومن ثَمّ النظر في
واقع الفرق المنتسبة إلى الإسلام من حيث
العمل بهذه النصوص وتحقيقها على وجهها الشرعي الذي كانت الفرقة الناجية أسعد الفرق
بذلك، وأما غيرهم فإما جامع لطائفة من صور الغلو والتفريط، أم تجده واقعًا في الإطراء،
أم التنقص والتفريط. فهكذا الناس بالنسبة للعقيدة في عبد الله ورسوله نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم بين الوسطية والاعتدال فيه، كما أمر به هو وأرشد إلى ذلك ربُّه،
وبين الغلو ومجاوزة حد الشريعة، أم بين التنقص والجفاء، وكلا طرفَي قصد الأمور
ذميم. فهذا وذاك هو الحامل للكتابة في الموضوع تحت عنوان:
مقام
العبودية والرسالة لنبينا محمد وموقف
الفرق المنتسبة إلى الإسلام منهما.
نتائج
البحث بإيجاز
قد توصل البحث إلى عدة نتائج، هنا ذكر لأهمها:
فكرة
البحث انبثقت من تلكم الأحاديث الكثيرة والكثيرة التي فيها الشهادة لِمحمدٍ r بأنّه: عبدُ الله ورسولُه، الْمتنوّعة الدلالات، ذكرتها مجموعة
مخرجة في موضع من البحث، ثم تأملت مضامينها واستشهدت بمقاطع منها هنا وهناك حسب
الحاجة. ومن أمثلتها: حديث (لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَت
النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ
اللَّهِ وَرَسُولُهُ) رواه البخاري([1])
الذي فيه الأمر بأنْ يقول العباد -بقلوبهم وألسنتهم-: محمد عبد الله ورسوله، ويقابل
ذلك النهي عن إطرائه ورفعه فوق منزلته بأبِي هو أمّي.
وجاء
أنّه r لا يُحبّ أنْ يُرفع فوق المنزلة التي أنزله الله تعالى عليها (وهي
منزلة العبد المربوب كامل العبادة لله، بضميمة النبوة والرسالة) "أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ! مَا أُحِبُّ أَنْ
تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ U).
ومنها الحديث الذي فيه الدلالة
على أنّ خير الخيارَين الذي اختاره رسولُ الله r هو ما يُحبُّه له
ربُّه من التواضع لله والتذلل والخضوع، (فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t -كما في
المسند- قَالَ: «جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى
النَّبِيِّ r فَنَظَرَ إِلَى
السَّمَاءِ؛ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ
مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ، قَالَ: يَا
مُحَمَّدُ! أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، قَالَ: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا
يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا
مُحَمَّدُ! قَالَ: "بَلْ عَبْدًا رَسُولا"([2])).
ومنها
الدلالة على أنّ مَن يَشهد للنبِيّ r بالصفتين (العبودية والرسالة) مع طائفة من مطالب شرعية فهو من أهل
وعد الله تعالى بالجنة، (مَنْ
شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؛ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ،
وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ
عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ" الحديث متفق عليه([3]).
ومَن
يَتَوَضَّأُ وَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ
يَقُولُ حِينَ
يَفْرُغُ مِنْ وُضُوئِهِ: (أَشْهَدُ أَنْ
لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؛ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ) إِلا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ
مِنْ أَيِّهَا شَاء.
إلى غير ذلك من الدلالات الشرعية
الجامعة للنبيِّ r الصفتين المهمتين (صفة العبودية والرسالة) التي لَمّا تجمع عندي
ثلاثون منها (الأدلة)، ثم وقفتُ كذلك على عبارات جميلة في شرح المقاطع المستشهد بها
من الأحاديث، كقول الإمام النووي:
وكقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في شرح
حديث تعليم النبِيّ الصحابة التشهد كما يُعلّمهم السورة من القرآن، والذي منه: (أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)
قال في كتابه: شروط الصلاة وأركانها وواجباتها:
«عبدٌ لا يُعبَد، ونبِيٌّ لا يُكذَّب؛
بل يُطاعُ ويُتّبع، شرّفه الله بالعبودية»([4])،
فكّرت في دراستها تحت عنوان: مقام العبودية والرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه
وسلم وموقف الفرق المنتسبة إلى الإسلام منهما .
ثانيًا:
تبيّن
بالبحث أنّ نصوص القرآن والسّنّة قد نصَّتْ على أمورٍ متعدِّدة –أوامر ونواهي-
فيما يتعلَّق بشأن نبيّنا r
وَبِمَا جَاءَ بِهِ:
وأنه يجب على كلّ المسلمين، بل وعلى جميع العالمين ممَن رجى سَعَادَة نفسه وَأَحَبّ نَجَاتَهَا
أنْ ينْصَحَها؛ فَيَعْرِفَ مِنْ هَدْيِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَشَأْنِهِ، مَا يَخْرُجُ بِهِ
عَنْ الْجَاهِلِينَ بِهِ، وَيَدْخُلُ بِهِ فِي عِدَادِ أَتْبَاعِهِ وَشِيعَتِهِ وَحِزْبِهِ،
ذلك أنّ سَعَادَة الْعَبْدِ فِي الدّارَيْنِ بعد بعثته r مُعَلّقَةً بِهَدْيِه من حيث مَعْرِفَتُه ومَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ، وَتَصْدِيقه
فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَطَاعَته فِيمَا أَمَرَ؛ فَإِنّهُ لا سَبِيلَ إلَى السّعَادَةِ
وَالْفَلاحِ، لا فِي الدّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ، إلا عَلَى يديه، وَلا سَبِيلَ إلَى
مَعْرِفَةِ الطّيّبِ وَالْخَبِيثِ عَلَى التّفْصِيلِ إلا مِنْ جِهَتِهِ، وَلا يُنَالُ
رِضَا اللّهِ ألْبَتّةَ إلا عَلَى يدِيهِ، فَالطّيّبُ مِنْ الأَعْمَالِ وَالأَقْوَالِ
وَالأَخْلاقِ بعد بعثته لَيْسَ إلا هَدْيَهُ، وَمَا جَاء بِهِ، فَهُو الْمِيزَانُ الرّاجِحُ
الّذِي عَلَى أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلاقِهِ، تُوزَنُ الأَقْوَالُ وَالأَخْلاقُ
وَالأَعْمَالُ، وبِمتابعته يَتَمَيّزُ أَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ الضّلالِ، فَالضّرُورَةُ
إلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَدَنِ إلَى رُوحِهِ، وَالْعَيْنِ إلَى نُورِهَا،
وَالرّوحِ إلَى حَيَاتِهَا. فأيّ ضرورةٍ وحاجةٍ فُرضَت فضرورة العبد وحاجته إلى
هذا الرّسول r
فوقها بكثيرٍ. وما ظنُّك بِمَن إذا غَابَ عَنْك هَدْيُهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ طَرْفَةَ
عَيْنٍ فَسَدَ قَلْبُك، وَصَارَ كَالْحُوتِ إذَا فَارَقَ الْمَاءَ، وَوُضِعَ فِي الْمِقْلاةِ.
فَحَالُ الْعَبْدِ عِنْدَ مُفَارَقَةِ قَلْبِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرّسُولُ، كَهَذِهِ
الْحَالِ بَلْ أَعْظَمُ.
ثالثًا: وهو كتأكيد للنتيجة السابقة
من كون الأوامر
الإلهية ونواهيه المتعلقة بالنبي كثيرةٌ، وكذلك بيانُها وتأكيدها الذي جاء على
لسان رسوله r في الأحاديث، أقول: مَن أخَذَ بِهذه الأمور جَميعها (الأوامر
والنواهي)، وآمَن بِها، وعمِل بِمقتضاها يكون قد توسَّط. بينما الذي يخلّ بشيءٍ
منها تعمدًّا فهو لا محالة يقَع في أحَدِ حالَيْن؛ إما الغُلُوّ أم التنقُّص في
عبد الله ورسوله نبينا محمدٍ r. وإنّ مِن أهم هذه الأوامر: الأمر بالإيمان بالرسول r وبما جاء به، واعتقاد خاتمية رسالته للنبوات، وأنّ رسالته كافية
شافية كاملة لا تحتاج إلى مكملّ، واعتقاد سيادته على بني آدم طُرًّا أجمعين، وكذلك
التسليم له وتحكيمه r في شؤون الحياة والتحاكم إليه، وطاعته واتباعه، ومحبته r التي تفوق محبة كل أحد، وتعظيمه وتعزيره وتوقيره، وتعظيم ما جاء
به كتابًا وسُنة، وكذلك تعظيم أهله وصَحبِه ومُتّبعيهم بإحسان. والأمر بإنزاله
منزلته الشرعية؛ دون زيادة عليها أو نقصان، بل والأمر باعتقاد جميع مقتضيات كونه
عبدًا رسولا، وغير ذلك من حقوقه التي فيها عَظَمتُه. ومِن النواهي في
الباب: النهي عن إطرائه r ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله عليها، بالقول مثلا بأنه يعلم
الغيب، أو أنه يسجد له، أو يستغاث به، وتسوية مشيئته بمشيئة ربه تعالى بالواو، أو
الزعم بأنه يصلى إلى قبره، أو يجعل قبره مسجدًا، أو وثنًا، أو عيدًا، أو أنه يُشدّ
الرحال لا إلى مسجده بل إلى قبره. وكذلك النهي عن أنْ يوصف بصفات ربه وخصائصه، أو
يُصرَف إليه شيءٌ مما لا يستحقه إلا إلهُه وخالقه من الحقوق. فكلّ هذه وغيرها من النواهي التي نَهى الله
تعالى عنها ورسوله r، وتلك هي أوامره؛ فمن أخذ بها جميعًا فقد توسط، ومن أخل ببعضها
فهو لا محالة إما في الغلو أم الجفاء .
رابعًا:
أثبتت الدراسة أنّ أهل السنة والجماعة من الصحابة y وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين هم: أسعد المنتسبين إلى الإسلام من
أفراد وجماعات برسول الله r؛ فهم أشد المسلمين حُبًّا له –الحبّ المشروع- فيحبونه بأشدّ مما
يحبون أنفسهم ووالديهم وأموالهم والناس أجمعين، وأكثرهم تعظيمًا له وتوقيرًا
وتعزيرًا، وتعظيمًا لما جاء به، كما أنهم أكثرهم اتباعًا له وتقديمًا لقوله على
قول أيّ أحدٍ، وتركًا للابتداع. وسيكونون كذلك –لتوحيدهم لله واتباعهم لرسوله- يوم
القيامة أسعدَ بشفاعته والشرب من حوضه.
خامسًا:
كما
أثبتت أنّ كلّ الفرق المنتسبة إلى الدين الإسلامي غير أهل السنة خالفوا العقيدة
الحقة في عبد الله ورسوله نبينا محمدٍ r بوجه أو بآخر؛ فهم إما غلاةٌ فيه r، أو مقصِّرون، أو تكون الفرقة جمعت بين الداءين!
سادسًا:
تقرر في البحث بيان أنّ عبْدَ الله ورسولَه نبيَّنا محمدًا r بشَرٌ له مِن خصائصهم،كما تقرر أنه ليس له مِن خصائص الربوبية
والإلهية شيءٌ، ولَمّا كان الأمر كذلك فلأنْ تثبُت خصائص البشرية –كالنسيان مثلا-
لغيره مِن المعظَّمين، وتنتفي عنه خصائصُ الإلهية مِن باب أولى. وهذا فيه اجتثاثٌ
للغلوّ مِن أساسه، ورَدٌّ على الرافضة والصوفية، ولله الحمد.
سابعًا:
أثبتت
الدراسة أنّ الفِرَق المنتسبة إلى الإسلام والتي مَرّ في البحث ذكرٌ لأوجه وصُوَر
من مواقفهم الغالية فيه r والجافية عنه: لَها شَبَهٌ جُمْلِيٌّ باليهود والنصارى الذين
أخبَر الرسول بأنّ طوائف من هذه الأمة ستتبعها، فاليهود والنصارى جُفاة في أنبياء
الله تعالى ورسله عامة، غلاة فيهم، كما أنهم جفاةٌ في حق نبينا محمد r خاصة، ويكفي مثالا للأخير: ما يَحصُل من تِمثيله ورسمه r استهزاءً به، في هذه الأيام. ... فإذا كانت النصارى غَلَت في عبدِ
الله ورسولِه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه (عيسى u) بحيث اعتقدوا فيه الإلهية، واعتقد طائفة منهم بُنُوّتَه لله،
تعالى الله وتقدس عما يقولون. وإذا كانوا هم واليهود اتخذوا قبور أنبيائهم
وصالحيهم، .. فإنّ ممن ينتسب إلى الإسلام مَن يَصرف لُبّ العبادة إلى عبد الله
ورسوله، فيستغيثون به وبغيره في الشدائد، كما يلوذون به ويستعيذون به بعد وفاته،
وفيما لا يقدر على كثيرٍ منه حال حياته. كما أنّ منهم من يتخذون قبور الصالحين
مساجد في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، إلى غير ذلك من صُور الغلو في
المعظمين. وإذا غلب على اليهود الجفاء في
الأنبياء بصُور شتى، كالإيمان ببعضهم والكفر بالبعض،
وكالتنقُّص منهم، والإيذاء، والسبّ، والشتم، والقذفٌ بارتكاب جرائم السكر، والزنا،
والقتل، ثم التشريد، والمطاردة، والقتل لبعضهم، وغير ذلك مما مرّ في البحث
فإنّه وُجد من طوائف ينتسبون إلى هذا الدين تلبُّسٌ بعدة صُور جفائية، تجاه عبد
الله ورسوله نبينا محمد r والتي منها ما هو مخرج من الملة، ومنها ما هو دون ذلك. فمن
الأول: الكفر بعقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية، باعتقاد أن فلانًا نبِي بعد
النبي الخاتم؛ محمد r، وككثير من أنواع الابتداع في الدين حتى سُمّوا بالمبتدعة، كبدعة
تقديم عقولهم المتباينة على الشرع المطهر الذي جاء به، عند المتفلسفة، وأذنابهم
ممن أخذوا بمناهجهم، من جهمية ومعتزلة وأشعرية وماتردية وخوارج ورافضة وغيرهم،
وبدعة الكفر بالسنة النبوية عند الجماعة المدعوة بالقرآنيين، ووُجد مَن يَتّهم الرسول r بالجور، ويقول له: اعدل فإنك لم تعدل. وكتفضيل بعض الناس على
النبي r مطلقًا أو من بعض الوجوه، كتفضيل الفيلسوف عند المتفلسفة على
النبي، أو خاتم الأولياء عند الصوفية عليه r، والإمام عند الرافضة على النبي المرسل، أو تفضيل مزاعم شيطانية
على القرآن. فمثال الأول ذلك: قول الخميني: «...فإنَّ للإمام مقاماً محمودًا،
ودرجةً سامية، وخلافة تكوينية؛ تخضع لولايتها وسيطرتها جَميعُ ذراتِ هذا الكون،
وإنَّ من ضروريات مذهبِنا: أنَّ لأئمتنا مقامًا لا يبْلغه ملَكٌ مقرَّبٌ، ولا
نبيٌّ مرسلٌ،... وقد ورد عنهم(ع): إنَّ لنا مع الله حالات لا يسَعها ملَكٌ
مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مرسل»([5]).
وادّعاءُ محمد علي الشرازي
(ت: 1266هـ) تفضيلَ نفسه على رسول الله r، وأنّ البشر عاجزون عن الإتيان بحرفٍ واحدٍ من
حروف قرآنه الموسوم بـ(ـالبيان)، بعد تفضيله على القرآن الكريم بالصراحة التي لا
تقبل التأويل: «إنّي أفضلُ من محمد، كما أنّ قرآنِي أفضل من قرآن محمد، وإذا قال
محمدٌ بعجز البشر عن الإتيان بسورة مِن سُوَر القرآن، فإنّي أقول بعَجَز البشر عن
الإتيان بحرفٍ واحدٍ من حروف قرآنِي»([6]). وقال: «إنّ نبيّكم لم يُخلّف لكم بعده غير القرآن، فهاكم كتابِي
البيان فاتلوه واقرأوه تجدوه أفصح عبارة من القرآن»([7]).
وادعاء تلميذه المسمى حسين
علي الْمازندرانِي (ت:1309هـ) تفضيلَ كتابَه (الموسوم بالأقدس) على القرآن: «وآيةٌ
واحدة منه خيرٌ من كُتُب الأولين والآخرين»([8]). وقال في الأقدس: «قل تالله الحق، لا تغنيكم كُتُب العالَم ولا ما
فيه من الصحف، إلا بِهذا الكتاب الذي ينطق في قطب الإبداع: أنّه لا إله إلا أنا
العليم الحكيم»([9]).
وسبق
هؤلاء رأسُ الطريقة التيجانية (أحمد
التجانِي –ت:1150هـ-) فزعم قبلهم أن (صلاة
الفاتح لِما أُغلق) التي ادّعى أنّ الرسول جاءه يقظة ورَدّه إلى قولها بعد هجره
لها: أفضل من القرآن بستة آلاف مرة، حيث قال: "...فلمّا أمرنِي بالرجوع
إليها سألتُه r عن فضلها، أخبَرَنِي أولاً بأنّ المرّة الواحدة منها تعدل من
القرآن ستّ مرّات. ثم أخْبَرنِي ثانيًا
أنّ المرة الواحدة تَعدل من كُلّ تسبيحٍ وقَع في الكون، ومن كلّ ذكر، ومن كلّ
دعاء؛ كبير أو صغير، ومن القرآن ستة آلاف مرة؛ لأنّه من الأذكار»([10]).
إلى غير ذلك مِن صُوَر الجفاء للرسالة المحمدية الخاتمة
الخالدة الكاملة التي لا نبوة بعدها، وليست ناقصة، مما قال ويقول به فِرَقٌ ينتمون
إلى هذا الدين.
ومن أمثلة التقصير والجفاء في جانب الرسالة
غير المخرج من الملة: بدعة المولد النبوي، وغير ذلك. هذا
مِن جانب.
ومن الجانب الآخر:
فإنه قد وُجدَت فِرَقٌ كثيرة اتسَمُوا بالغلو فيه عليه الصلاة والسلام ومجاوزة
قدَرِه الشرعي، ومنزلته التي أنزله الله تعالى عليها؛ حيث يصفُه بعضُهم بصفات
الرَّبّ، ويصرِفون إليه حقوق الإله، كقولِ بعضهم: نحن نعبُد الله، ونعبُدُ رسوله،
وكزعمِ آخَرين أنه يُستغاث بالرسول في كُلّ ما يُستغاث الله، وأنه يَعلَم كُلّ ما
يعلمه الله، ويَقْدِر على كُلّ يَقْدِر الله عليه، فنادى بعضُهم –وهو يَزعُم أنه
لا أحَدَ يلوذ به عند حدوث الحادث العمَم إلا الرسول-:
يا أكرَمَ الخلق
ما لِي مَن أَلُوذُ به
|
ومن أكثر الفِرَق غُلُوًّا في
عبد الله ورسوله نبينا محمد r: فرقة البريلوية، قال زعيم
الفرقة
أحمد رضا: «إنّ رسول الله r هو دافع البلاء،
ومانح العطاء»([12]). وقال البريلويّ أحمد
رضا: «إنّ رسول الله r خليفة الله الأعظم، وإنّه متصرّفٌ في الأرض والسماء» ([13]).
وزعموا أنه r يعلم الغيب، قال البوصيري:
وإنّ مِن جودك الدنيا وضرّتَها
|
قال أحمد رضا البريلويّ: «إنّ عِلم اللوح وعِلم القلم، وعِلم ما
كان وما يكون، جزءًا واحدًا من علوم النبِيّ r»([15]). وأيضًا قال وهو يُفصّل ما تقدم:
«إنّ علومه r تتنوع إلى
الجزئيات والكلّيات، وحقائق ودقائق، وعوارض ومعارف؛ تتعلق بالذات والصفات. وعلم
اللوح والقلم إنّما يكون سطرًا من سطور علمه، ونَهرًا من بُحور حِلمه»([16]). وقال مفتي المذهب
أحمد يار: «إنّ رسول الله r يعلم غيوب الماضي
والمستقبل، ويعلم أكثر ما في اللوح المحفوظ، ويعلم علم الساعة»([17]). بل حتى مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر
الله تعالى بعلمها، قال أحمد رضا البريلويّ مناقضًا الحديث الذي يُفسّر آخر آية من
سورة لقمان التي تُقرر -ويقرر الحديث معها- أنّه لا يعلم هذه المفاتيح إلا الله
وحده: «لَم يَخرج رسول الله r إلا بعد أنْ
أعْلَمه الله تعالى بهذه الغيوب الخمس»([18]). وقال: «إنّه r أوتي علم الخمس
في آخر الأمر، لكنّه أُمِر فيها بالكتمان»([19]). وتمادى وزاد في
الزعم، فقال: «إنّ النبِيّ r لم يكن يعلم هذه
الغيوب الخمسة فحسب، بل كان يُعطي هذه العلوم مَن شاء من خدَمه»([20]). وقال: «وكيف يَخفى أمرُ الخمس عليه r، والواحدُ من أهل
التصوف من أمته الشريفة لا يُمكِنُه التصرف إلا بمعرفة هذه الخمس، فاسمعوا هذا يا
منكرين، ولا تكونوا لأولياء الله مكذبين، فإنّ تكذيبهم خرابٌ للدين، وسينتقم الله
من الجاحدين، وأعاذنا الله بعباده العارفين»([21]). ونقَل مثله عن
أمثاله: «إنّ النبِيّ r لا يخفى عليه
شيءٌ من الخمس المذكورة في الآية الشريفة، وكيف يخفى عليه ذلك والأقطاب السبعة من
أمته الشريفة يعلمونها وهم دون الغوث! فكيف بسيّد الأولين والآخرين الذي هو سبب
كُلّ شيءٍ، ومنه كُلّ شيء»([22]).
والمقصود مِن كلّ هذا: أنّ الغلاة
في أنبياء الله ورسله والجفاة فيهم من المنتسبين إلى الإسلام: مشابهون لليهود
والنصارى في هذا الباب.
ثامنًا وأخيرًا:
ولئن كانت هناك نتيجة –مهمة- توصّل البحث إليها وينبغي أنْ تُشاد -غير ما تقدم-
فهي أنّ جميع أسباب اختيار الموضوع المرسومة في الخطة، والأهداف من وراء الكتابة
فيه استطاع الباحث –بتوفيق الله له- أنْ يأتِي عليها هدفًا هدفًا، وسببًا وسببًا.
هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم
الصالحات. والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
تحرير:
أبو بكر حمزة زكريا، بتاريخ: 19/فبراير/ 2015م.
No comments:
Post a Comment