مدرسة رمضان
والمداومة بعدها على طاعة الرحمن
حوار
مباشر بعنوان: المسلم بعد شهر رمضان
بوصال
هوسا (15، و17/شوال/1437هـ)
أعده وقدمه
أبو
بكر حمزة زكريا
المقدمة
بسم
الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء
والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فموضوع حديثنا الليلة هو عن: مدرسة رمضان والمداومة بعدها على
طاعة الرحمن وأستأنف بالذي هو خير، قال الله
تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [سورة الحجر: 99 ].
وورد في صحيح البخاري بعد ذكر الآية قول سالم مولى
ابن عمر رضي الله عنهما: اليقين الموت.
والمعنى: اشتغل بعبادة الله تعالى في جميع أوقاتك، ومدة
حياتك حتى يأتيك الموت وأنت على طاعة لله عز وجل. وأطلق اليقين على الموت لأنه
محقق لا شك فيه. قال تعالى في توبيخه للمجرمين وإجابتهم إياه: {وكنا نكذب بيوم
الدين * حتى أتانا اليقين} [سورة المدثر: 46-47]، أي: الموت. وقال تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ
إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل
عمران: 102].
ثم إن العبادة:
هي كل ما يحبه الله ويرضاه مِن الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. فهي تشمل الدين كله. والحياة كلها. وأنواعها كثيرة، ومنها: ما
نفعها قاصر، ومنها ما نفعها متعد.
في شهر
رمضان المبارك مارس المسلمون طائفة كبيرة من أنواع الطاعات، قاصرة النفع منها
والمتعدية، فمِن أمثلة الطاعات قاصرة النفع: التقوى بترك النواهي، وفعل
الأوامر التي منها: الصوم والتراويح والتهجد والعمرة والاعتكاف وقراءة القرآن
والأدعية والأذكار، والمحافظة على الصفوف الأوَل.
ومن أمثلة الطاعات المتعدية: تعليم الناس الدين
وأحكام العبادات، وأداء الزكاة وصدقة الفطر وبقية الصدقات، وإفطار الصائم.
والسَّنةُ اثنا عشر شهرا، والمطلوب الثبات على الطاعة
والمداومة على ذلك، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، وقد قال تعالى: {واعبد
ربك حتى يأتيك اليقين}.
فيدعو المسلم ويلح على ربه أنْ يهبه الثبات على
الأمر، كما ينبغي أن يستعيذ به من الحور بعد الكور، ذلك أنّ الله عز وجل ينهى
العبيد من نقض العمل وتركه، قال سبحانه: { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد
قوة أنكاثا} [سورة النحل 92].
في الآية: (أنكاثًا) جمع نكث وهو الغزل يحل فتله فيعود كما كان قبل الفتل
مفرق الأجزاء . و(نقَضَت) من النقض ويستعمل لمعان منها الهدم والإبطال والحل بعد
العقد. قيل بأنّ التي تفعل ذلك هي امرأة معينة كانت في مكة، وتلقب بالخرقاء . قال
ابن كثير في تفسير الآية: ((قال عبد الله بن كثير، والسدي: هذه امرأة خرقاء كانت
بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: هذا مثل
لمن نقض عهده بعد توكيده. وهذا القول أرجح وأظهر، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها
أم لا. وقوله: {أنكاثا} يحتمل أن يكون اسم مصدر: نقضت غزلها أنكاثا، أي: أنقاضا.
ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان، أي: لا تكونوا أنكاثا، جمع نكث من ناكث)).
وقال تعالى عن الضلال بعد الثبات والهداية، ... فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ
ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ (سورة النحل: 94).
وفي الصحيحين عَن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا
عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ
قِيَامَ اللَّيْلِ» [خ: كتاب التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان
يقومه، رقم: 1152، م: كتاب الصيام، 1159].
ولبيان الموضوع (مدرسة رمضان والمداومة بعدها على
طاعة الرحمن) جعلته في مقدمة سبَقَت، وتمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة، على
النحو التالي:
التمهيد: في بيان خصوصية شهر رمضان في العبادة.
المبحث الأول: الطاعات قاصرة النفع في مدرسة رمضان.
المبحث الثاني: الطاعات متعدية النفع في مدرسة رمضان.
المبحث الثالث: في ذكر أسباب الثبات على الطاعة.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج.
التمهيد: في بيان خصوصية شهر رمضان في العبادة
مع أنّ
الله تعالى خلق عبيده لطاعته وعبادته، وجعلها فرض العمر ووظيفته، وأنّ الموت الغاية
لنهايتها، لقوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [سورة الحجر: 99 ]. إلا أنّ
لشهر رمضان في العبادة ميزة وخصوصيةً ليس لغيره من الشهور، لشيئين لأفضلية الشهر
في نفسه التي خصه ربه بها من بين سائر الشهور، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ
الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ
يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ
مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ
الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ [جامع الترمذي، رقم: باب ما جاء في
فضل شهر رمضان، رقم: 682، والنسائي، رقم: 2107، وابن ماجة، رقم: 1642، وصححه
الألباني].
الميزة الثانية تتعلق بمواقف الصالحين الإيجابية من شهر رمضان، ما لا يكون
في غيره، حيث يشدون عن ساق الجدّ فيه، وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم، حيث كان جوادا في كل حياته، إلا أنه في شهر رمضان يزداد جوده، كما سيأتي
الحديث بذلك.
المبحث الأول: الطاعات قاصرة النفع في مدرسة رمضان
تقدم أنّ العبادات قاصرة النفع من أمثلتها: التقوى
بترك النواهي، وفعل الأوامر التي منها: الصوم والتراويح والتهجد والعمرة والاعتكاف
وقراءة القرآن والأدعية والأذكار، والمحافظة على الصفوف الأوَل. وأزيد هذه الطاعات
بيانا، فأقول:
عن التقوى: الذي هو العمل بالطاعة، وترك المعاصي، فهو من أعظم
مقاصد الصوم وحكمه، لذا ختم سبحانه آية فرض الصوم فقال: [لعلكم تتقون].
وفي الحديث المتفق عليه ما دوام الطاعة وإنْ كان
قلَّ، هو أحب العمل إلى الله سبحانه وتعالى:
[صحيح مسلم: باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل
وغيره، رقم 782]، فعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «أَدْوَمُهُ
وَإِنْ قَلَّ».
وفيه أيضا [صحيح مسلم، 782] عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا
قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرٌ، وَكَانَ
يُحَجِّرُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ
بِصَلَاتِهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ، فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: «يَا
أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ
لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا
دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ». وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ
وفيه [783] عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ
عَمَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ
شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ؟ قَالَتْ: «لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ
يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطِيعُ».
وفيه [رقم: 783] عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى
اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ»، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا
عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ.
وعن الصوم: فيستحب أن يصوم العبد بعد رمضان ستا من شوال، وثلاثة
أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة، والتاسع والعاشر من شهر الله المحرم، وكثيرًا من
شهر شعبان. وإنْ صام صوم داود فلا بأس.
وعن قراءة القرآن: في أيام شهر رمضان هناك مَن ختم القرآن عشر مرات،
بمعدل الختمة بعد كل ثلاث، إلا أنّ المطلوب أنْ يأخذ العبد القدر الذي يستطيع
العبد المواظبة عليه، فيقرأ القرآن مرة واحدة في الشهر، أم في الأسبوع، وقد ورد في
حديث يُضعَّف أنّ الله يحب من العباد كلما قرأوا إلى آخر القرآن أنْ يستأنفوا من
أوله، فعن ابن عباس، قال: قَالَ
رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: الحَالُّ
الْمُرْتَحِلُ. قَالَ: وَمَا الحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: الَّذِي يَضْرِبُ
مِنْ أَوَّلِ القُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ. [الترمذي: كتاب أبواب القراءات، برقم: 2948]. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه يُحزِّبون القرآن سبعًا، كما جاء
عند أبي داود [باب تحزيب القرآن، برقم: 1393] من حديث أوس بن حذيفة الذي قدم على رسول الله صلى الله
عليه وسلم في وفد ثقيف، وذكر أنّ الرسول كان كل ليلة يأتيهم بعد العشاء يحدثهم، ثم
إنه لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةً أَبْطَأَ
عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهم فِيهِ، فَقالوا: لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَنَّا
اللَّيْلَةَ، قَالَ: «إِنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ جُزْئِي مِنَ الْقُرْآنِ،
فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أُتِمَّهُ»، قَالَ أَوْسٌ: سَأَلْتُ أَصْحَابَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟
قَالُوا: ثَلَاثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ
عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ([1]).
وعن الصوم وقراءة القرآن معا اللذين يأتيان يوم القيامة شفيعًا
لأصحابهم([2]): أذكر هنا قصة: لعَبْد اللهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا الواردة
في الصحيحين، قَالَ: كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ
لَيْلَةٍ، قَالَ: فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ r، وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ
فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ لِي: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ
وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟» فَقُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ،
وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ: «فَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ
تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ،
إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» قَالَ:
«فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللهِ r، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ
النَّاسِ» قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ،
وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ: «كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا»
قَالَ: «وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ» قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ
اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ
عِشْرِينَ» قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ
ذَلِكَ، قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ» قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ
اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ
سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،
وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» قَالَ:
فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ. قَالَ: وَقَالَ لِي النَّبِيُّ r: «إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ»
قَالَ: «فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِي النَّبِيُّ r، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ
أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللهِ r»([3]).
هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري للحديث: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما
قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ([4]) فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا
فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا([5])، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا([6]) مُذْ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ
ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ r، فَقَالَ: الْقَنِي بِهِ، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقَالَ: كَيْفَ
تَصُومُ؟ قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟ قَالَ: كُلَّ
لَيْلَة، قَالَ: صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةً، وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي
كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: صُمْ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ،
قَالَ: أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ؛ صَوْمِ دَاوُدَ؛
صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً.
فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللهِ r، وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ
وَضَعُفْتُ. فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ السُّبْعَ مِنَ الْقُرْآنِ
بِالنَّهَارِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ
عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا
وَأَحْصَى، وَصَامَ مِثْلَهُنَّ؛ كَرَاهِيةَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا فَارَقَ
النَّبِيَّ r عَلَيْه([7]).
وعن التراويح وقيام الليل وغيره من النوافل: فقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة، ويصلي الرواتب، فيأخذ
المسلم بعد رمضان ما يغلب على ظنه المواظبة عليه، فيصلي الرواتب، والوتر، وركعات
من صلاة الليل من ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشر.
وعن العمرة: فمع مزيد فضلها في رمضان إلا أنها مشروعة في غيره من الشهور، فقد ورد
مرفوعا، ... .
وعن الاعتكاف: فأفضل أوقاته في رمضان، ويجوز في غيره من الشهور،،،
وعن الأدعية والأذكار: فيحافظ المسلم في رمضان وفي غيره على اذكار الصباح
والمساء، وأذكار النوم، والتي تقال دبر الصلوات، وعند الدخول والخروج للبيوت
والمساجد والأسواق، وغير ذلك حتى يكتبه الله من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
وعن المحافظة على الصفوف الأوَل: فهو مطلوب في رمضان وفي غيره،،،
فهذه طائفة من العبادات والطاعات القاصرة، والتي
ينبغي أنْ يكون للمسلم فيها حظ وافر قدر المستطاع في غير رمضان، كما كان يكثر منها
في شهر رمضان، إذْ ربّ رمضان هو ربّ بقية الشهور. فثلاثون يوما كافية للتدرب على
المثابرة على فعل الطاعات، ومواظبة قراءة القرآن وممارسة النفع العام والخاص ...
فإلى المبحث الثاني.
المبحث الثاني: الطاعات متعدية النفع في مدرسة رمضان
تقدم
في المبحث قبل هذا، ما يتعلق بالعبادات التي يقتصر نفعها للقائم بها مما قام
المسلمون بها في شهر رمضان. وأما الطاعات متعدية النفع فقد تقدم الإشارة إلى أن
منها: تعليم الخير، وبذل المعروف، وأداء الزكاة وصدقة الفطر وإفطار الصائمين وبقية
الصدقات. وأزيد هنا بيانا فأقول:
نفع
الناس بالأموال والطعام، وقضاء حاجاتهم: منه ما هو فرض واجب كالزكاة وصدقة الفطر،
ومنه ما يجب حينًا كسد جوعة المحتاجين وحاجة المعوزين بدليل نفي الإيمان للذي لم
يقم به في حديث يأتي ذكره. ومنه ما هو تطوع كبقية الصدقات وإفطار الصائمين. وكل
ذلك يقع في رمضان.
ومن مقاصد الصيام وحِكَم مشروعيته، أنْ يعرف الغني
قدر نعم الله عليه، وأنْ يتألم بالحالة التي يعيش عليها الفقراء في غالب أوقاتهم
فيحمله على إعانتهم وسد جوعتهم في رمضان وفي غيره، فهذا والله هدف نبيل، يعين
المجتمعات على التغلب لمشكلة التحاسد، فقد ورد
في الصحيحين حديث جود الرسول وكرمه، وأنه يزيد جودا في رمضان، فعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ
فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»([8]).
(وكان أجود) روي برفع أجود ونصبه والرفع أصح وأشهر.
(الريح المرسلة) المراد كالريح في إسراعها وعمومها.
ذاك
من السنن الفعلية، وقد وردت سنن قولية فيها بيان فضل قضاء الحوائح للعموم، أو
للجيران، أو للأرامل والمساكين، وفضيلة النفع العام والخاص، والحث على ذلك، مِنها
ما يلي:
أولا: ما جاء في الصحيحين: [خ: برقم: 2442، و6951، م: 2580] عن عبد اللَّهِ
بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أنه أَخْبَرَ سالما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ
أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ
أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً،
فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ...».
ومعنى (كان في حاجة أخيه) سعى في قضائها.
ومعنى (كان الله في حاجته) أعانه الله تعالى وسهل له قضاء حاجته.
ثانيا: جاء
عند الطبراني في الكبير، [رقم: 861، وحسنَّه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم:
906] عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ
إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحَبُّ
النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى
اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ
تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَئِنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ لِي فِي
حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا؛ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ
كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ
أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ
حَتَّى يُثَبِّتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ.
ثالثا: في صحيح ابن حبان [برقم: 532]، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه
قال: "لدغت رجلا منا عقرب ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل يا
رسول الله أرقيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه
فليفعل".
إسناده صحيح على شرط مسلم،
رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الزبير فمن رجال مسلم، وأخرج له البخاري مقرونا،
وصرح ابن جريج هو وأبو الزبير بالسماع.
رابعا: جاء
في الأدب المفرد للبخاري [رقم: 112]
عن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ».
قال الألباني [في السلسلة
الصحيحة، برقم: 149]: ((نعم، هو صحيح بما له من الشواهد، فقد روي من حديث أنس و ابن
عباس وعائشة)) فذكرها. وفي رواية أنس بزيادة: "...
بجنبه وهو يعلم به".... ثم علق الألباني على الحديث فقال: وفي الحديث
دليل واضح على أنه يحرم على الجار الغني أن يدع جيرانه جائعين، فيجب عليه أن يقدم
إليهم ما يدفعون به الجوع، وكذلك ما يكتسون به إن كانوا عراة، ونحو ذلك من
الضروريات.
ففي الحديث إشارة إلى أن
في المال حقا سوى الزكاة، فلا يظنن الأغنياء أنهم قد برئت ذمتهم بإخراجهم زكاة
أموالهم سنويا، بل عليهم حقوق أخرى لظروف وحالات طارئة، من الواجب عليهم القيام
بها، وإلا دخلوا في وعيد قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها
في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم
وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).
خامسا: في الصحيحين
[خ: برقم: 5353، و6007، م: برقم: 2982] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «السَّاعِي عَلَى
الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ -وَأَحْسِبُهُ
قَالَ- وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ».
المراد بالساعي: الكاسب لهما، العامل لمؤنتهما.
والأرملة مَن لا زوج لها؛ سواء كانت تزوجت قبل ذلك أم لا. وقيل: هي التي فارقت
زوجها، قال ابن قتيبة: سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد
بفقد الزوج؛ يقال أرمل الرجل إذا فني زاده.
سادسا:
في صحيح البخاري [باب
فضل من يعول يتيما، رقم: 6005] عن سَهْل بْن سَعْدٍ رضي الله عنه، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ
فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى.
وهذه
الأحاديث كلها داخلة في النفع العام أم الخاص، وخاصة شريحة المحتاجين من مساكين المسلمين
واليتامى والأرامل والإخوة والجيران، وقد تعلَّمَ المسلم تقديم يد العون لهم في
شهر رمضان، والمطلوب أنْ يحافظ على ما يستطيع مِن ذلك في غير شهر رمضان. فإلى
المبحث التالي.
المبحث الثالث: في أسباب الثبات على الطاعة (10 أسباب)
لا يتحقق مواظبة العبيد على طاعة
الله، ولا المداومة والثبات عليها، إلا باجتماع عدة أسباب، من أهمها: سؤال الله
تعالى الثبات، واستعاذته من الحور بعد الكور ومن الكفر بعد الإيمان، ومن المعصية
بعد الطاعة، في جملة من الأسباب. هذا، وللثبات على الطاعة أسباب كثيرة أبرزها:
أولا: المحافظة في باب ممارسة الطاعات على القليل الدائم؛ لا على الكثير المنقطع،
لهذا عقد الإمام البخاري بابا في صحيحه عنْوَن له بـ: (باب القصد والمداومة على
العمل) ثم أورد تحته أحاديث منها، حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ [برقم: 6463]، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلاَ
أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي
اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ
مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا».
وفي مسند أحمد وغيره، عَنْ جَابِرٍ
رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى
نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ،
وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى».
فالمطلوب السداد في القول والعمل
والقصد والتوسط، وعدم تبغيض عبادة الله للنفس، بالتشديد عليها؛ ذلك أنّ عدم الترويح عن النفس، ليس منهجًا
شرعيًّا. ويؤدي إلى الترك الكلي للعبادة، والانقطاع عنها، فيكون الإنسان
كالـمُـنْـبَـتّ، الذي لا أرضًا قطع، ولا ظهْـرًا أبقى...
ففي صحيح مسلم [باب أمر من نعس في صلاته... بأن
يرقد...، برقم: 784] عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ،
فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» قَالُوا: لِزَيْنَبَ تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ،
أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ: «حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ
نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ، أَوْ فَتَرَ قَعَدَ». وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ:
فَلْيَقْعُدْ.
وعنده [رقم: 785] عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها،
أَخْبَرَتْ أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزَّى مَرَّتْ بِهَا وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا
لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا
تَنَامُ اللَّيْلَ خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَسْأَمُ
اللهُ حَتَّى تَسْأَمُوا».
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ، فَقَالَ: «مَنْ
هَذِهِ؟» فَقُلْتُ: امْرَأَةٌ لَا تَنَامُ تُصَلِّي، قَالَ: «عَلَيْكُمْ مِنَ
الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ
أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ».
لذا قرر علماء الشريعة قاعدة استنبطوها
من نصوص الشريعة، وهي: قليلٌ تداوم عليه خيرٌ مِن كثيرٍ تنقطع عنه، صحيحٌ؛
الذي يعمل كثيرًا يومًا ثم يتركه أيامًا، قد يوافيه الأجل وهو في غير أيام عمله.
أما الذي داوم على العمل -وإنْ قلّ- فإنْ وافاه الأجل فإنه في هذه الحالة على خيرٍ
وعلى عملٍ صالح دائم، لذا كان أحب الأعمال إلى الله أدومها وإنْ قلّ.
ومنهج الانقطاع للعبادة وعدم إعطاء
الجسم حقه في السير إلى الله عند السالكين، وكذلك بقية مَن له حق على الإنسان ...
- يؤدي إلى الترك الكلي أو إلى الفتور والشعور بأنّ على الإنسان ثقلا حـمَّل نفسه
ما لا تحتمله؛ فيكره عبادة الله، ويراها ثقيلة عليه، وأخبارُ بعض السالكين من
سلفنا الصالحين([9]) الذين شعُروا بأنهم لو أخذوا بطريق
الرفق الذي أرشدوا إليه لأكبَرُ زاجر!
ثانيا: من أسباب المداومة على الطاعة: سؤال الله الثبات على الطاعة، والتعوذ به من الحور
بعد الكور، فعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا
مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل
تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء([10]). قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وعن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، " أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: اللَّهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ،
وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا
سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا"([11]).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ، قَالَ: كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ
أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، ... اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
وَعْثَاءِ السَّفَرَ... وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، ...([12]). قال الترمذي عقب الحديث: هذا حديث
حسن صحيح. ويروى الحور بعد الكون أيضا، قال: ومعنى قوله: الحور بعد الكون، أو
الكور، وكلاهما له وجه، يقال: إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من
الطاعة إلى المعصية، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر. وصححه الألباني.
ثالثًا: من أسباب المداومة أيضا: معرفة مواظبة الأنبياء والصالحين
في الطاعة، وأخبارهم في كتب الأحاديث والتواريخ والسير مشهورة. وسيأتي شيء من
مواظبة أم حبيبة رضي الله عنها ومحافظتها على الرواتب (اثنتي عشرة ركعة) منذ سمعت
التحريض على فعلها من رسول الله صلى اله عليه وسلم، وكذلك رواة هذا الحديث. وفي
الصحيحين [خ: باب خادم المرأة، رقم: 5362، وم: باب التسبيح أول النهار وعند النوم،
رقم: 2727] من حديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا
السَّلاَمُ لما أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ
خَادِمًا، وأرشدهما إلى قول التسبيح ثلاثا وثلاثين، والتحميد كذلك، والتكبير كذلك،
عند أخذ المضجع وأنه خير لهما من خادم، قال عليّ: فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ،
قِيلَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ. وقد تقدم
أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص بقي على حالته إلى وفاته من صوم يوم وإفطار يوم،
وختمة القرآن في كل سبع كراهية أنْ يترك شيئا فارق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
كما واظب الرسول نفسه على ركعتين بعد العصر قضاء لما فاته من صلاتهما بعد الظهر بسبب
ما شغله ناس من عبد القيس عنهما، ثم داوم على صلاتهما بعد العصر، كما قَالَتْ
عَائِشَة: " رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلاَ عَلاَنِيَةً: رَكْعَتَانِ قَبْلَ
صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ العَصْرِ" [خ: باب: ما يصلى بعد
العصر من الفوائت ونحوها، رقم: 592، وم: باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما
النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر، رقم: 835] وفي لفظ عند مسلم: عن أبي
سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ،
فَقَالَتْ: «كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ
عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ
أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا» قَالَ يَحْيَى بْنُ
أَيُّوبَ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ: تَعْنِي دَاوَمَ عَلَيْهَا.
رابعًا: من أسباب الثبات: معرفة الأجور المترتبة على قراءة
القرآن والطاعات، والنفع العام والخاص.
خامسًا: من الأسباب: معرفة فوائد النوافل الدنيوية وأجورها الأخروية، من
ذلك، أنّ النوافل سبب لنيل محبة الله للعبد. كما أنَّها تكميل لما قد يطرأ مِن نقص
في الفرائض، فقد روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلَاةُ»، قَالَ: "يَقُولُ
رَبُّنَا جَلَّ وَعَزَّ لِمَلَائِكَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ: انْظُرُوا فِي صَلَاةِ
عَبْدِي أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ
تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ
لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ، قَالَ: أَتِمُّوا
لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى
ذَاكُمْ". [أبو داود: رقم: 864، الترمذي: باب ما جاء أن أول ما يحاسب به
العبد يوم القيامة الصلاة، رقم: 413، وابن ماجة: باب ما جاء في أول ما يحاسب به
العبد الصلاة، رقم: 1426، وقال الترمذي: حديث حسن].
وفي حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ثَابَرَ عَلَى
ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنَ السُّنَّةِ، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ،
أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ
بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ
الْفَجْرِ» [الترمذي: 306 - باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة
من السنة، ما له فيه من الفضل، رقم: 414، وابن ماجة: باب ما جاء في ثنتي عشرة ركعة
من السنة، رقم: 1140].
وعند مسلم [صحيحه، في باب فضل السنن الراتبة قبل
الفرائض وبعدهن، وبيان عددهن، برقم: 728] بسنده إلى داود بن أبي هند، عن النعمان
بن سالم، عن عمرو بن أوس، قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان، عَنْ أُمّ حَبِيبَةَ رضي
الله عنها، تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ،
بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ».
قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ
سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ عَنْبَسَةُ: «فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ
سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ».
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: «مَا تَرَكْتُهُنَّ
مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ».
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: «مَا
تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ».
سادسًا: من أسباب الثبات على الطاعات بعد رمضان: التزود في شهر رمضان بزاد التقوى،
والإخلاص والمراقبة، فيثبت العبد على الطاعات بعد رمضان.
سابعًا: من الأسباب للثبات على الطاعات بعد رمضان: شكر الله على توفيقه للعبد في
رمضان والطاعات، فيتم الله على العبد نعمته ويزيده.
ثامنًا: من الأسباب للثبات على الطاعات بعد رمضان: التفكر في زوال الدنيا وفناء
الإنسان، كما فنى شهر رمضان وزال.
تاسعًا: من الأسباب للثبات على الطاعات بعد رمضان: قصر الأمل في أمور الدنيا.
عاشرا: من الأسباب للثبات على الطاعات بعد رمضان: إحياء المتاجرة مع الله في النفس،
وأنه حصل على سعادته ولذته في رمضان، فيسعى في البقاء عليه بعد رمضان.
هذا ما تيسر جمعه، والله أسأل القبول والتوفيق، وهو وحده
المستعان.
الخاتمة:
يحسن في ختام هذا البحث أنْ أُلخص أهم ما توصلت إليها
من النتائج، فأقول:
([2]) ورد في مسند أحمد [رقم: 6626] من حديث ابْن لَهِيعَةَ، إلى
عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ
لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ
الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ
الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ "، قَالَ:
" فَيُشَفَّعَانِ"، حسنه الشيخ الألباني.
([6]) الكنف: هو الستر والجانب، ويحتمل: الكنيف، قال الحافظ ابن حجر: وكنفًا -بفتح الكاف والنون بعدها فاء-
هو الستر والجانب، وأرادت بذلك: الكناية عن عدم جماعه لها؛ لأن عادة الرجل أن يُدخل
يدَه مع زوجته في دواخل أمرها. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون المراد بالكنف:
الكنيف، وأرادت أنه لم يطعم عندها حتى يحتاج إلى أن يفتش عن موضع قضاء الحاجة كذا
قال. والأول أولى، وزاد في رواية هشيم: فأقبل عليّ يلومُني، فقال: أنكحتُك
امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها وفعلت، ثم أنطلق إلى النبي r فشكاني". (فتح الباري، ج3/ ص3560).
([9])
كعبد الله بن عمرو بن العاص
رضي الله عنهما وغيره، ففي الصحيحين (البخاري كتاب فضائل القرآن، بَاب فِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ، ورقمه:
5052، وصحيح مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوّت به
حقًّا، أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم وإفطار يوم، ورقمه: 1159،
وقد تقدم الحديث.
No comments:
Post a Comment