السيرة
النبوية المختصرة
من
كتاب التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة
لشمس
الدين بن محمد بن عبد الرحمن السخاوي (831-902هـ)
مستلة
من مقدمة الكتاب (ج1/13-69 من طبعة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة،
ط3/1440هـ-2018م.
أفردها:
أبو
بكر حمزة زكريا
قال
شمس الدين السخاوي:
وهذا حين الشروع فيما قدمته عن هذا المجموع من نبذة يحسن
إيرادها ويتعين إفرادها بل تعلمها أمر مفترض وتفهمها لا يهمله إلا من في قلبه مرض
في ذكر سيد البشر وسيد الخلق ممن مضى وغبر الأكمل خلقا وخلقا والأفضل في الرقي
والارتقاء صاحب المقام المحمود واللواء المعقود والحوض والكوثر المورود والمعجزات
الباهرات والتمييزات بالخصائص المتكاثرات من الشفاعة العامة والجماعة العائمة إلى
قيام الساعة بالحجة التامة - وانشقاق القمر ونبع الماء
ما بين أصابعه مما تواتر واشتهر - والبركة في الشراب والطعام - وتكليم الذراع
المسموم له من بعض اللئام وإحياء الموتى وإسماع الصم والاطلاع على الغيب فيما يخص
ويعمم وإعلامه بمصارع صناديد قريش ببدر الذي كان فيه الهناء للمسلمين وطيب العيش
ورده عين قتادة وقد سقطت ورؤيته المشارق والمغارب لما زويت الأرض التي هبطت
وإخباره بأن ملك أمته سيبلغ ما زوى منها فكان كما أخبر به عنها الرحمة الشاملة
والنعمة الكاملة خاتم الأنبياء والمرسلين والسابق في الخلق الأصفياء أجمعين
المصطفى بالمحبة والخلة والقرب والدنو الذي رقاه به المولى وفضله والمعراج وصلاته
بالأنبياء التام به لهم الابتهاج والبشارة والنذارة والهداية ومزيد الوقاية ومغفرة
ما تقدم له وما تأخر والقسم باسمه الأزهر وإجابة دعوته ولواء الحمد وصلاة الله
وملائكته المرتقى بهما لنهاية السعد صلى الله عليه وعلى آله أجمعين صلاة وسلاما
إلى يوم الدين مناقبه ومحاسنه ملأت الوجود شهرة فلو اجتمع الخلق على إحصائها كان
وصفهم من بحرها قطره.
"مناقبه ومحاسنه"
فهو محمد - وأحمد - بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهد بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة
بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان هذا هو النسب المتفق عليه ومن
هنا اختلف النسابون بما لا نضيفه إليه: أبو القاسم - وأبو إبراهيم - وأبو الأرامل
- ابن الذبيح ابن شيبة - الحمد - القرشي الهاشمي المطلبي المكي ثم المدني.
حملت به أمه أجمل نساء زمانها وأكمل ومن أبوها من أشرف قريش فيما
عليه اشتمل آمنة ابنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب المجتمع فيه نسب أبويه والمرتفع
كل منهم بالإضافة إليه بشعب أبي طالب من مكة وبقي في بطنها تسعة أشهر.
مات أبوه في أثنائها بالمدينة عند أخوال أبيه بني عدي بن النجار عن
خمس وعشرين أو ثلاثين سنة وضعته وهو البكر لكل منهما في يوم الاثنين عند فجره
لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول عام الفيل بشرقي جوف مكة في شعب بني هاشم
بالدار التي كانت تسكن فيها مع أبيه وهي بسوق الليل معروفة مختونا مسرورا مختوما
بخاتم النبوة محبورا.
وقيل لها وهي بين النائمة واليقظانة إنك حملت بسيد هذه الأمة بل رأت
حين وضعته كأنه سقط منها نور أضاءت له قصور الشام الشهير لمن أمه وقالت
"والله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا
أيسر منه إلى غير ذلك مما تشرفت بنقله عنه".
وأنه وقع حين ولدته وقرت عينها إليه بالانتماء واضعا يديه بالأرض
مشيرا بالسبابة كالمسبح بها إلى السماء وليلة ميلاده انشق إيوان كسرى حتى سمع صوته
وسقطت منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ألف عام وغاضت بحيرة ساوة.
وأرضعته ثويبة التي أعتقها عمه أبو لهب حين بشرته به قليلا وكانت
تقول ما رأيته يبكي جوعا ولا عطشا قط بل كان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة
وربما عرضنا عليه الغداء فيقول: أنا شبعان.
ثم حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية وحملته معها لبني سعد بن بكر رهطها
ورأت من يمنه وبركته وإنصافه وصلته ذهابا وإيابا وأقامته مناما ويقظة ما انتشر ثم
رجعت به إلى أمه بعد شق جبريل عليه السلام صدره الشريف وملئه حكمة وإيمانا وهو ابن
خمس فأزيد تخوفا عليه فدام معها في كفالة جده ولم تلبث أن ماتت في رجوعها - وهو
معها صلى الله عليه وسلم - من المدينة إذ خرجت به وهو ابن ست سنين وكانت معها أم
أيمن بركة الحبشية مولاته صلى الله عليه وسلم التي ورثها من أبيه وهي دايته
وحاضنته معها ثم بعد موتها فحملته لجده فكفله حتى مات ودفن بالحجون والنبي صلى
الله عليه وسلم ابن ثمان سنين وفي غضون كفالته له أبطأ عليه مرة فجزع عليه وارتجز
وهو طائف بالبيت المعظم بقوله:
يا رب رد راكبي محمدا ... رده رب
واصطنع عندي يدا
فلم يلبث أن جاء فاعتنقه وقال يا بني لقد جزعت عليك جزعا لم أجزعه
على شيء قط والله لا أبعثنك في حاجة أبدا.
فكفله بعد موت جده بوصية منه ابنه - أبو طالب - وهو شقيق عبد الله
فكان أيضا يحبه حبا شديدا لا يحب مثله أحدا من ولده بحيث لا ينام إلا إلى جانبه
وكان يجلس على وسادته المختصة به ويتكىء بل ويستلقي عليها ويقال له ميسر ويقول ان
ابن أخي هذا ليحسن من نفسه بنعيم ويخصه دون بنيه بالطعام سيما وكان إذا أكل معهم
شبعوا وإن لم يأكل معهم لم يشبعوا ولذا كان إذا أرادوا الأكل أخرهم حتى يجيء وإذا
جاء فأكل معهم فضل من طعامهم فيقول له عمه إنك لمبرك وكانوا يصبحون عمشا رمصا
ويصبح هو دهينا كحيلا ونشأ صلى الله عليه وسلم أعظم نشأة وأشرفها فشب يكلؤه الله
تعالى ويحوطه ويحفظه من أقذار الجاهلية من كل عيب فلم يعظم لها صنما قط ولم يحضر
مشهدا من مشاهدهم مع طلبهم منه لذلك فيمتنع ويعصمه الله
منه ولقد قال صلى الله عليه وسلم ما هممت بشيء ما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا
مرتين عصمني الله فيهما وكلما دنوت من صنم لهم يصيح في رجل امض وراءك فما قربت
منهحتي كان أفضل رجال قومه مروءة وأحسنهم خلقا وجوارا وأكرمهم حسبا وأعظمهم حلما
وأصوبهم حديثا وأبعدهم من كل خلق دنيء حتى لا يسمى في قومه إلا الأمين لما شاهدوه
من أمانته وصدقه وطهارته وصفاته العالية التي لم يشركه أحد من خلق الله فيها.
واستصحبه عمه - وهو ابن اثنتي عشرة سنة - إلى الشام لما جاء بصرى
ورأى منه بحيري الراهب ما دل عليه أنه النبي المرسل خاتم الأنبياء أمره بالرجوع به
إلى بلاده ففعل وبعد عشرين سنة من مولده أو دونها حضر مع عمومته حرب الفجار ورمى
فيه بأسهم وحلف الفضول الذي عقدته قريش على نصر كل مظلوم بمكة وكان صلى الله عليه
وسلم يرعى غنم أهله بأجياد على قراريط ثم مضى الشام أيضا مع ميسرة فتى خديجة ابنة
خويلد بن أسد في تجارة لها فرأى مما خصه الله به ما يسترشد به المتنبه فلما عاد
حدثها به وكانت امرأة حازمة لبيبة شريفة فرغبت في تزوجه لها فتزوجها وهو ابن خمس
وعشرين سنة وهي ابنة أربعين فكانت له وزير صدق وعبيرة مسك ثم بعد مضي عشر سنين
أخذت قريش في بناء الكعبة لأمر اقتضاه فاختلفت قبائلها فيمن يضع الحجر الأسود
فاختاروه فأشار ببسط ردائه على الأرض فوضعه عليه وترفع كل قبيلة طرفا منه ففعلوا
ذلك فلما انتهوا به إلى محله أخذه الأمين المكين بيده الميمونة فوضعه وذلك يوم
الاثنين ولما انتهى صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة جاءه جبريل عليه السلام في يوم
الاثنين ثامن شهر ربيع الأول وهو بغار حراء إذ كان يخلو به فيبتعد فيه فأقرأه أول
سورة العلق فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده.
ودخل على خديجة فزملوه حتى ذهب عنه الروع ثم أعلمها بالخبر وقال لها
لقد خشيت على نفسي فقالت له أبشر كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم
وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ثم ذهبت به إلى ابن
عمها ورقة بن نوفل بن أسد فأعلمه بما أعلمها به فقال له "هذا هو الناموس الذي
أنزله الله تعالى على موسى عليه السلام" وآمن هو وخديجة به وقال إن يدركني
يومك أنصرك نصرا مؤزرا"
ثم لم يلبث ورقة أن توفي.
وفتر الوحي فلما كان بعد أشهر أنزل الله عز وجل عليه {يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ, قُمْ فَأَنْذِرْ, وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ,وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ, وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر 1] ,
وحمى الوحي وتتابع.
وبعد أن أقرأه جبريل عليه السلام "العلق" ضرب برجله الأرض
فنبعت عن ماء فتوضأ منها ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ كذلك ثم قام وصلى
بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف وأتى النبي صلى الله عليه وسلم خديجة فعلمها
ذلك وصلى بها وكان الفرض إذ ذاك ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي إلى أن كانت ليلة
المعراج.
وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة - بعد البعثة - ثلاث سنين يدعو إلى
الله مستخفيا فكان المسلمون يجتمعون بدار الأرقم أو بالشعاب للصلاة.
ثم نزل عليه في السنة الرابعة {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر 94] وقوله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
[الشعراء 214] .
فأعلن حينئذ بالدعاء لأهل الإسلام وكفار قريش غير منكرين لما يقول
بحيث كان إذا مر بهم في مجالسهم يشيرون إليه إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من
السماء إلى أن عاب آلهتهم وذكر آباءهم الذين ماتوا على الكفر فانتصبوا لعداوته
وعداوة من آمن معهى يعذبون من لا منعة عنده أشد العذاب ويؤذون من لا يقدرون على
عذابه.
وآمن به مع من قدمناهما علي وزيد بن حارثة وأبو بكر ثم بدعائه عثمان
والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله.
واشتد الأمر وتنابذ القوم ونادى بعضهم بعضا وتآمرت قريش على من أسلم
منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم.
وحدب عليه عمه أبو طالب ومنع الله عن رسوله به وببني هاشم - غير أبي
لهب - وبني المطلب.
وكذبه من عداهم وآذوه ورموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون وأغروا
به سفاءهم حتى أن شقيا منهم أخذ يوما بجمع ردائه فقام أبو بكر دونه وهو يبكي
ويقول: "أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ".
إلى أن أسلم سنة ست عمه حمزة - أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة - فعز
به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفت عنه قريش قليلا بل وكذا تأيد الإسلام بإسلام
عمر بن الخطاب إجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يؤيده
به" وكان لا يرام ما وراء ظهره فامتنع بهما حتى قال الأعداء له: "إن كنت
تطلب مالا جمعنا لك ما تكون به أكثرنا مالا" أو الشرف: فنحن نشرفك علينا أو
الملك: ملكناك علينا وإن كان الذي يأتيك رئيا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب
الطب
لك حتى تبرأ منه أو نعذر فيك فقال لهم ما بي تقولون
ولكن الله بعثني رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم
رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن
تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
وأيده الله سبحانه بمعجزة القرآن وبانشقاق القمر بالعيان وكفاه أمر
المستهزئين مع تجارؤهم على العناد ودفع اليقين ولو اختار لدمروا وما عمروا ولكنه
صلى الله عليه وسلم كان يرجو هدايتهم ويتوخى إجابتهم ويأبى الله الا ما أراده.
وأذن للنبي صلى الله عليه وسلم - بعد أن عذب بلال بحيث اشتراه أبو
بكر وأعتقه وقتلت سمية أم عمار بن ياسر بحيث كانت أول قتيل في الإسلام وضرب سعد بن
أبي وقاص رجلا من المشركين ممن آذاه هو ومن كان يصلي معه بشعب من شعاب مكة وعاب
صنيعهم بلحى بعير فشجه فكان أول دم أهرق في الإسلام - إلى غير هذا من شديد الأذى
لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة عند حاكمها أصحمة النجاشي فهاجروا وكان ذلك في رجب
سنة خمس فكانت أول هجرة في الإسلام.
فلما علمت قريش باستقرارهم فيها وأمنهم عنده أرسلوا إليه عمرو بن
العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ليردهم إلى قومهم فأبى ورجعا خائبين مع كونه لم يكن
حينئذ مسلما إنما أسلم في سنة تسع قبيل موته وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يلبث أن رجع المهاجرون حين قيل لهم إن أهل مكة أسلموا فلم يجدوا
لذلك صحبة فكان بعضهم في الجوار وبعضهم متخفيا وبعضهم لم يدخل مكة.
ثم هاجر المسلمون الهجرة الثانية إلى الحبشة وأقاموا عند النجاشي على
أحسن حال وهم زيادة على مائة من الرجال والنساء.
وفشى الإسلام في القبائل واجتمعت قريش وائتمروا أن يكتبوا كتابا
يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوا
منهم شيئا ولا يبتاعوا منهم وكتبوه في صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة هلال المحرم
سنة سبع فانحاز الهاشميون - غير أبي لهب - والمطلبيون إلى أبي طالب ودخلوا معه في
شعبه فأقاموا على ذلك سنين حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا إلى أن أعلم
الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم: "إن الأرضة أكلت ما كان فيها من جور
وظلم ولم يبق منها إلا ذكر الله سبحانه" فوجد ذلك كذلك وشلت يد كاتبها ففرج
الله عنهم وخرجوا من شعبهم وذلك في سنة عشر.
وما كان بأسرع من موت أبي طالب فيها ثم بعده بثلاثة أيام - أم
المؤمنين خديجة رضي الله عنها فنالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تكن
تناله في حياة أبي طالب بحيث كان صلى الله عليه وسلم يسمي ذلك العام عام الحزن
وبعد ثلاثة أشهر من وفاة خديجة خرج ومعه زيد بن حارثة إلى الطائف فلم يجيبوه بل
أغروا به سفاءهم فرجع بزيد لمكة فلما نزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر من
جن نصيبين فاستمعوا القرآن وأسلموا وأقام بنخلة أياما وقال له زيد كيف تدخل مكة
وقد أخرجوك؟ " فقال: "إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر
دينه ومظهر نبيه".
ثم انتهى إلى حراء حتى دخلها في جوار مطعم بن عدي فقصد الركن فاستلمه
وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته.
فلما كان ليلة السبت - لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان وقبل الهجرة
بثمانية عشر شهرا أتاه جبريل وميكائيل عليهما السلام وهو نائم في مكة فأسرى به من
زمزم إلى بيت المقدس بعد أن شق صدره الشريف وحشي إيمانا ثم عرج به إلى السماء
السابعة وفرضت الصلوات الخمس ورأى ربه عز وجل بعيني رأسه صلى الله عليه وسلم فلما
أصبح وأخبر قريش بذلك كذبوه وارتد جماعة وسألوه أمارة فأعلمهم بها وأتاه جبريل في
صبيحتها فأراه أوقات الصلوات.
كل ذلك وهو يدعو الناس إلى الإسلام نحو عشر سنين فيوافي الموسم كل
عام ويتتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ
رسالات ربه فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة
قبيلة فيردون عليه أقبح رد ويؤذونه ويقولون قومك أعلم بك إلى أن أراد الله سبحانه
إظهار دينه.
فساقه إلى هذا الحي الملقبين في الإسلام "بالأنصار" فدعاهم
إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن وأسلم من شاء الله منهم ووعدوه بالمجيء - هم
ومن معهم - في العام المقبل ثم حضروا إليه عنده فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء
وغير ذلك من غير أن يفرض يومئذ قتال وهي العقبة الأولى.
وفي العام المقبل - وذلك في ذي الحجة أوسط أيام التشريق - قدم عليه
سبعون فأزيد منهم وكان من حج من قومهم خمسمائة فواعدهم منى ليلة النفر الأول إذا
هدأت الرجال أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة فوافوه
ومعه عمه العباس قبل إسلامه متوثقا له وهي العقبة الثانية.
فبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم وعلى
حرب الأحمر والأسود {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج 39] وغيرها وإنه من
وفى فله الجنة ومن غشى مما بايعهم عليه كان أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا
عنه.
ثم رجعوا إلى رحالهم وقد طابت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ
جعل الله له منعة قوما أهل حرب وعدة ونجدة وقدموا المدينة فدعوا إلى الإسلام حتى
فشى فيها ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه
وسلم وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخزرج فيضيقوا
عليهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى.
فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة إلى
المدينة لإخوانهم من الأنصار فأذن لهم فخرجوا أرسالا مختفين حتى قدموا على الأنصار
في دورهم فآووهم ونصروهم وواسوهم.
ولما علم المشركون بذلك وأنه لم يبق بمكة إلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما أو مفتون محبوس أو مريض أو عاجز عن الخروج
خافوا خروج النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا في دار الندوة ولم يتخلف أحد من أهل
الرأي والحجى ليتشاوروا في أمره وحضرهم إبليس اللعين في صورة شيخ كبير من أهل نجد
فقيل يحبس أو ينفى فلم يرتض إبليس بواحد منهما.
فقال أبو جهل أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاما نهدا جلدا ثم
نعطيه سيفا صارما فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يدري بنو عبد
مناف بعد هذا ما يصنعون فاستصوبه إبليس وتفرقوا مجمعين على ذلك فأتى جبريل النبي
صلى الله عليه وسلم فأعلمه به وأمره أن لا ينام فيه.
واجتمع الأعداء يتطلعون من صير الباب ويرصدونه حتى ينام ليحمل عليه
بعضهم فطلع عليهم وهم جلوس عند الباب فأخذ حفنة من تراب فجعل يذره على رؤوسهم
ويتلو يس والقرآن الحكيم إلى - يؤمنون ومضى.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال لهم قد خبتم وخسرتم إنه والله مر بكم
فما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته فخاب ما أملوه وأنزل في
ذلك {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال 30] .
وتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد مكثه من حين النبوة بضع
عشرة سنة - للهجرة ثم خرج بالتأييد والتوفيق في صحبته
أبو بكر الصديق السابق بالتصديق بإذن من الله له في الهجرة واستصحابه إلى غار ثور
فمكث فيه ثلاث ليال وأنبت الله شجرة فسدت وجه الباب وأمر العنكبوت فنسجت على فمه
وحمامتين وحشيتين فوقفتا بفمه فكان ذلك سببا لتحققهم عدم أحد به.
وبعد الثلاث ركبا راحلتين وراحلته صلى الله عليه وسلم هي ناقته
الجذعاء وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة ومعهم عبد الله بن الأريقط ليدلهم على
الطريق وذلك في يوم الاثنين من ربيع الأول وسنه صلى الله عليه وسلم ثلاث وخمسون.
وعرض سراقة بن مالك وهو على فرسه للنبي صلى الله عليه وسلم ليفوز بما
وعدت به قريش من جاء به فدعا عليه فساخت فرسه فقال: "يا محمد ادع الله أن
يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد عنك من ورائي" ففعل فأطلق ووفى.
ومر النبي صلى الله عليه وسلم بخيمتي أم معبد - عاتكة - ومنزلها بعد
قديد فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم فسألها أبها لبن قالت هي أجهد من ذلك
فاستأذنها في حلبها فقالت نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبا فمسح بيده الطاهرة ضرعها
وسمى الله تعالى وقال اللهم بارك لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت فدعا بإناء
لها يربض الرهط فحلب فيه ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه كذلك ثم شرب آخرهم وقال
ساقي القوم آخرهم ثم حلب في الإناء ثانيا حتى ملأه وتركه عندها وارتحلوا.
وأصبح صوت بمكة عاليا يصيح بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون
قائله:
جزى الله رب الناس خير جزائه ...
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فقد فاز من
أمسى رفيق محمد
فيالقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال
لا تجارى وسؤدد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها
للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ...
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حايل فتحلبت ... صريحا ضرة
الشاة مزبد
فغادره رهنا لديها بحالب ... يرددها في
مصدر ثم مورد
ونحو قصة أم معبد سبب إسلام ابن مسعود حيث أخذ النبي صلى الله عليه
وسلم من الغنم - التي كان ابن مسعود يرعاها - شاة لم يمسها الفحل وحلبها فدرت.
وانتهى النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع المعين ضحى يوم الاثنين
لاثنتي عشرة خلت منه إلى بني عمرو بن عوف بقباء منها فجلس فيها وجاء المسلمون عليه
وأبو بكر قائم يذكر الناس وتأخر علي بن أبي طالب
بعدهما بمكة ثلاثة أيام حتى أدى ما كان عند النبي صلى الله عليه وسلم من الودايع
لأربابها ثم لحقه بقباء.
واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف ثم انتقل إلى
المدينة بعد أن أسس مسجد قباء وصلى الجمعة في طريقه بمسجد بني سالم الذي في الوادي
بعد أن خطبهم فيه والقبلة إذ ذاك لبيت المقدس إلى أن حولت.
ونزل بالمدينة حيث بركت ناقته باختيارها قائلا إنها مأمورة عند محل
مسجده الشريف الذي أمر ببنائه بعد وهو يومئذ مصلى الرجال من المسلمين ومربد
لغلامين من بني مالك بن النجار وحمل أبو أيوب الأنصاري رحله إلى داره وهو - فيما
قيل - من ذرية الحبر الذي أسلمه تبع الأول كتابه الذي فيه أنه بناه لما مر
بالمدينة للنبي صلى الله عليه وسلم لينزله إذا قدمها فتداوله الملاك إلى أن صار
لأبي أيوب وحينئذ فما نزل صلى الله عليه وسلم إلا في بيت نفسه وكرر قوله اللهم
أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين وصارت الهدايا من الطعام تحمل إليه.
وكان أول ما سمع منه صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام وأطعموا
الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام".
ثم تحول منه وأمر ببناء المسجد ثم بنى مساكنه بجانبه وآخى بين
المهاجرين والأنصار على الحق والمواساة.
وقدم عليه ابنتاه: فاطمة وأم كلثوم وزوجته سودة وأسامة بن زيد وأمه
بركة أم أيمن مع زيد بن حارثة وأبي رافع وكان أرسل إليهم بهما ومعهما بعيران
وخمسمائة درهم.
وقدم على أبي بكر عياله مع ابنه عبد الله ثم المهاجرون إلى المدينة.
ودام بالمدينة التي أضاء منها بعد قدومه صلى الله عليه وسلم كل شيء
وزال عنها الوباء ونقل حماها إلى الجحفة وأكرمت بمنع دخول الدجال والطاعنون لها
بعد الهجرة عشر سنين.
كان في الأولى التي ابتدأ التاريخ منها وافتتح بالمحرم غزوة الأبواء
وهي غزوة ودان وجعلت صلاة الحضر أربع ركعات بعد ركعتين وشرع الأذان وبني بعائشة في
شوالها.
وفي الثانية: غزوة بواط ثم بدر الأولى ثم ذي العشيرة ثم بدر الكبرى
وهي البطشة التي أعز الله بها الإسلام وأهلك بها رؤوس الكفرة اللئام يوم الجمعة
لسبع عشرة خلون من رمضان ثم غزوة بني قينقاع ثم السويتي ثم قرقرة الكدر وصرفت
القبلة إلى الكعبة بعد أن كانت لبيت المقدس وفرض صوم رمضان وزكاة الفطر بل الزكاة
وصلى
العيدين وخطب فيهما وأمر بالأضحية وأعرس علي بالزهراء
وتوفيت رقية ابنته صلى الله عليه وسلم وعثمان بن مظعون.
وفي الثالثة: غزوة غطفان إلى نجد ويقال لها غزوة أنمار - وذي أمر
وغزوة بني سليم وأحد واستشهد فيها من المسلمين كثيرون وحمراء الأسد ودخوله بحفصة
والزنيبتين ابنة خزيمة وابنة جحش وبني عثمان بأم كلثوم وتحريم الخمر أو في التي
تليها.
وفي الرابعة: غزوة بئر معونة وبني النضير ثم بدر الصغرى ثم ذات
الرقاع وصلاة الخوف وقصر الصلاة وتزويج أم سلمة.
وفي الخامسة: غزوة دومة الجندل ثم المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ثم
الخندق وهي الأحزاب ثم بني قريظة وقصة الإفك ونزول آية التيمم وآية الحجاب وصلى
لخسوف القمر وبنى بجويرية.
وفي السادسة: غزوة بني لحيان ثم الغابة وهي ذو قرد ثم الحديبية وبيعة
الرضوان وفرض الحج وسابق بين الخيل ونزول آية الظهار وقحط الناس فاستسقى الله
فسقوا وكسفت الشمس.
وفي السابعة: غزوة خيبر وعمرة القضاء والبناء بكل من صفية وأم حبيبة
وميمونة ومنع الحمر الأهلية ومتعة النساء.
وفي الثامنة: وقعة مؤتة وغزوة الفتح ثم حنين ثم الطائف وعمل المنبر
النبوي ولما خطب عليه حن الجذع الذي كان يخطب عنده وهو أول منبر عمل في الإسلام
وتأييد تحريم المتعة بعد حلها وأخذ الجزية من مجوس هجر.
وفي التاسعة: غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم التي
انحصرت في سبع وعشرين وانتهت سراياه لست وخمسين قاتل النبي صلى الله عليه وسلم في
تسع من غزواته بدر وأحد والخندق وقريظ والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف وحج
الصديق بالناس ثم أردفه بعلي بأن لا يحج بعدها مشرك ولا يطوف عريان.
وصلى على النجاشي وتسمى هذه السنة سنة الوفود لكثرة الوافدين فيها
على النبي صلى الله عليه وسلم وفيها آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه وهدم
مسجد الضرار وكانت الملاعنة وفي العاشرة قدوم جرير البجلي ونزول {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور
58] وكانوا لا يفعلونه قبلها وارتد مسيلمة الكذاب. وادعى النبوة وحجة الوداع التي لم يحج بعد الهجرة غيرها ونزلت عليه فيها بعرفة
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة 3] وخطب النبي صلى الله عليه
وسلم الناس فيها وأوصاهم وودعهم وقال لعلكم لا تروني بعد عامي هذا ووقف معه صلى
الله عليه وسلم فيها مائة وعشرون ألفا.
وفي الحادية عشر: كانت صلى الله عليه وسلم وفاته بعد شكواه أياما
شهيدا حميدا سعيدا في يوم الاثنين حين اشتد الضحى لليلتين مضتا من ربيع الأول عن
ثلاث وستين سنة وعظم الخطب ودهش جماعة من الصحابة ولم يكن فيهم أثبت من أبي بكر
الصديق والعباس وخطب الصديق الناس تاليا قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ} [الزمر 30] فثابت قلوبهم وسجي صلى الله عليه وسلم ببرد وحبرة وجاءت
التعزية يسمعون الصوت ولا يرون الشخص السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة إن في الله عزاء عن كل مصيبة
وخلفا من كل هالك ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم
الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وغسله - صلى الله عليه وسلم - علي رضي الله عنه في قميصه الذي مات
فيه من بئر بقباء يقال لها الغرس كان صلى الله عليه وسلم يشرب منها بوصية منه
وكانت على يده خرقة يغسله بها من تحت القميص والعباس وابناه الفضل وقثم يقبلونه مع
علي وأسامة وشقران مولياه صلى الله عليه وسلم يصبان الماء وكفن في ثلاثة أثواب بيض
سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجا وصلى عليه المسلمون أفرادا لم
يؤمهم أحد.
ودفن في منزله الذي توفي فيه - بيت عائشة - وألحد له في جانب قبره
ودخل قبره الأربعة الذين غسلوه ثم هيل عليه التراب صلى الله عليه وسلم.
وفي الكثير مما سبق في هذا الفصل أو أكثره اختلاف مشيت على ما صحح مع
الاختلاف بين المصححين أيضا حسبما يعلم من المبسوطات.
واشترك الأنام في العزاء به فلم يصابوا بمصيبة أعظم من فقده صلى الله
عليه وسلم فإنه أشفق عليهم من أنفسهم وأرفق بهم في مخوفهم وملبسهم وأحرص على
هدايتهم وأنص ببيان المقتضى لسعادتهم ابتعثه الله سبحانه رحمة لهم وقدمه للشفاعة
للمخطىء المتلوث منهم ففرج به عنهم الكروب وفرح بالانتساب إليه القلوب وأتحف
المتوسل به بكل مطلوب وخفف بذلك عظيم الشدائد والخطوب فله الفضل في الإسعاد
بالانتماء إليه إذ لا حول ولا قوة إلا بالتوكل عليه ولقد كان صلى الله عليه وسلم
كامل الأوصاف شامل الأفضال والإنصاف فخلقه سليم وخلقه عظيم أحسن الناس خلقا وخلقا
وأبين عند الاضطراب والإلباس فضلا عن الإيناس لفظا
ومنطقا ليس بالطويل ولا بالقصير بل هو في العدل والاعتدال لا شبيه له ولا نظير
بعيد ما بين المنكبين شديد البذل فلا يدخر الفاني ولا يقبض عليه باليدين يجيب
الدعوة ويقبل الهدية وإن قلت ولا يخيب العبد والأمة والمسكين فيما التمس منه من النوازل
التي أعلت بل يجالس الفقراء ويؤاكلهم ويؤانس الغرباء وبالجميل يعاملهم يتفقد من
غاب من أصحابه ويتردد إليهم بالعيادة حتى لمن لم يكن من أتباعه وأحبابه للترجي
لهدايته والتوخي للاقتداء به في مزيد تواضعه مع سيادته يخصف لتواضعه النعل وينصف
من نفسه للرغبة في أوفر العدل ويرقع الثوب ويخيطه ويقلبه ويرفع معه على دابته
المملوك ويلاطف الصغير بل والسفيه بحيث يلين لخطاب لمن يصفه بقوله بئس العشيرة
ويتحمل ما يتعلق بخاصة نفسه إلا أن تنتهك حرمات الله الصغيرة فضلا عن الكبيرة ولا
يطوي عن أحد بشره بل يداعب ويمزح من غير انتهاء لما يكره مأمون في هذا السخط
والرضا ميمون في المضيق والفضا.
"إلى غير هذا مما يحتمل مجلدات وتشمل عليه تصانيف
متعددات".
وبالجملة فقد جمع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كمال الأخلاق ومحاسن
الشيم والسياسة التامة المنتشر في الخافقين بها العلم وآتاه علم الأولين والآخرين
ووافاه بما فيه النجاة في الآخرة لأتباعه ولو كانوا مثلي مقصرين.
قال البراء بن عازب: "رأيته في حلة حمراء فلم أر شيئا قط أحسن
منه" وقال أنس رضي الله عنه ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفه ولا شممت
رائحة قط أطيب من رائحته وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا رآه يقول:
أمين مصطفى بالخير يدعو ... كضوء البدر
زايله الظلام
وعمر رضي الله عنه ينشد لغيره:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المضيء
لليلة البدر
وعمه أبو طالب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ...
ربيع اليتامى عصمة للأرامل
تطيف به الملاك من آل هاشم ...
فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان حق لا يخيس شعيرة ... ووازن عدل
وزنه غير عائل
وكان له صلى الله عليه وسلم من الأعمام والعمات العباس وحمزة وعاتكة
وأروى وأميمة وصفية وكلهم ممن أسلم وأبو طالب عبد مناف وأبو لهب عبد العزي وأبو
الطاهر الزبير وحجلة واسمه المغيرة وضرار والحرث وقثم
والغيداق واسمه مصعب أو نوفل وعبد الكعبة والمقوم والعوام وأم حكيم البيضاء وبره.
فهؤلاء تسعة من الرجال والنساء والعوام منهم زاده الدمياطي.
ومن الأولاد: القاسم - وبه كان يكنى - وزينب - ورقية - وفاطمة
الزهراء - وأم كلثوم - وعبد الله ويسمى الطبيب - والطاهر - وإبراهيم وهو فقط من
سريته مارية ابنة شمعون القبطية وباقيهم من خديجة المختصة بأنه لم يتزوج عليها.
وللثانية: علي - وأمامة - ابنا أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس تزوج
الثانية على بعد الزهراء ثم بعد موته المغيرة بن نوفل فولدت له يحيى.
وللثالثة: عبد لله بن عثمان بن عفان مات صغيرا وبعد موتها تزوج عثمان
الخامسة ولذا لقب ذا النورين.
وللرابعة: من علي التي لم تتزوج غيره الحسن - والحسين - ومحسن - وأم
كلثوم - وزينب فمحسن مات صغيرا - وأم كلثوم تزوجها عمر بن الخطاب فولدت له -زيدا -
لا عقب له وزينب تزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فولدت له عليا - والنسل
الكريم والفخر الجسيم والشرف العظيم من الحسنين.
ولم يتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أولاده سوى أمهما الزهراء
التي هي مما امتازت بالتنصيص على أنها بضعة منه وعاشت بعده نصف سنة.
ومن الزوجات - المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه تزوج منهن واحدة
ولا تزوج أحد من بناته إلا بوحي - أم هند - خديجة ابنة خويلد - ثم أم الأسود -
سودة ابنة زمعة - ثم أم عبد الله - عائشة ابنة الصديق - التي لم يتزوج بكرا غيرها
ثم - حفصة ابنة الفاروق - أبي حفص عمر بن الخطاب ثم أم المساكين - زينب ابنة خزيمة
- واشتركت مع الأولى والتاسعة في موتهن في حياته ثم أم سلمة - هند ابنة أبي أمية -
ثم أم الحكم - زينب ابنة جحش - ثم جويرية ابنة الحارث - وكان اسم كل منهما - برة -
فغيره النبي صلى الله عليه وسلم ثم ريحانة ابنة زيد - ثم أم حبيبة رملة أو هند
ابنة أبي سفيان بن صخر بن حرب - ثم صفية ابنة حيي - ثم ميمونة ابنة الحارث - مات
عن تسع منهن.
ومن لم يدخل بهن ممن تزوجها أو وهبت نفسها له أو خطبها ولم يتفق
تزويجها زيادة على الثلاثين.
ومن السراري: مارية ابنة شمعون القبطية وربيحة القرظية وجارية جميلة
أصابها في
في السبي وأخرى وهبتها له زينب ابنة جحش.
ومن الخدام والموالي ومن أفردتهم في جزء.
ومن الخيل والبغال والحمير واللقاح والغنم والسلاح والملابس والأواني
والكتاب والحراس والكتاب المكتوب إليهم والمؤذنين والرسل والأمراء والشعراء
والحداة والضاربين لأعناق الكفار بين يديه ما لا تحتمل هذه النبذة التعرض لسرده
فضلا عن سرد أصحابه الذين منهم العشرة المشهود لهم بالجنة ولو بالخلاف في حصر
عدتهم إجمالا والأصهار والأختان والجواري والخطيب والفارس والراجل والرامي وأهل
الصفة وهم عدد كثير أفردت لهم جزءا مما لا ينافيه قول أبي هريرة رأيت ثلاثين رجلا
منهم يصلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليس عليهم أردية وعد منهم نفسه وأبا ذر
وواثلة بن الأسقع بن طخفة الغفاري.
"وبالجملة فلقد تصورت أني لو بسطت هذه النبذة وما يلتحق بها
لزادت على عشرين مجلدا".