مستخلص رسالة الدكتوراه
لأبي بكر حمزة
بسم
الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فإنه
ولجمع نصوص الكتاب والسنة في بيان نِعَم الله وآلائه، ثم دراستها دراسة
عقدية أحببتُ أنْ تكون أطروحتي التي أتقدم بها (1440هـ) لقسم العقيدة بالجامعة
الإسلامية للحصول على درجة العالمية العالية (الدكتوراه) تحت عنوان: "المسائلُ
العقديةُ الْمتعلِّقةُ بالنِّعَمِ -جمعًا ودراسة-"، راجيًا مِن الله
الإعانة.
أسباب
اختياري للموضوع: يرجع إلى عدة أسباب،
أبرزها:
·
أهمية
هذا الموضوع من حيث مَصْدَرُ الإيجاد للآلاء والنعم، ومورد الحديث عنها؛ فالمصدرُ
الله، والحديث عنها ورد في النصوص الشرعية، من الآيات القرآنية التي هي كلام الله
تعالى وأصدق القيل، وفضلُه على كلام المخلوقين كفضل الخالق على المخلوق، وكذلك ما
صح من أحاديث الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فالاشتغال بهما وطلب تفهمهما
واستخراج ما فيهما من المسائل المتعلقة بالعقيدة له أهميته الكبرى.
·
علاقة
الموضوع بالمسائل المتعلقة بأنواع التوحيد، فالنِّعَم من خلق الله وربوبيته، وهي
دليل رحمته وإحسانه إلى خلقه عامة، ورحمته بعباده المؤمنين خاصة. كما أنَّ
النِّعَم تقتضي من العباد أمورا ترجع إلى الإيمان
والاعتراف لله بها، وعدم الكفران لها والجحود والنكران، والتكذيب والتماري
والارتياب، وتقتضي القيام بالشكر بالجوارح والحمد باللسان. وهذا ما يسمى توحيد
الله في أفعال العباد (الألوهية). وهذا أيضًا مما يُبرز أهميته.
·
علاقة
الموضوع بالمسائل المتعلقة ببقية أركان الإيمان غير "الإيمان بالله"،
حيث إنّ في بعثة الأنبياء والرسل نِعْمتَين عظيمتين؛ مِن جهة الرسل أنفسهم، ومِن
جهة المرسَل إليهم؛ فالأولى: نعمةٌ عظمى على الأنبياء أنفسهم، كما أنّ
الأنبياء هم أعلى أصناف الْمُنعَم عليهم من عِباد الله الصالحين، وهم أيضًا أحسنُ
مَن قام بمقتضى النِّعَم مِن الإيمان والشكر. وأما الجهة الثانية فهي: كونُ
بعثة الأنبياء نعمةً جليلة على الأمم، حيث جاءَت الرسل الكرام بالهداية التي هي
كبرى النعم، وسبب النجاة في الدنيا والآخرة. وكُتُب الله تعالى نزّلها
تبيانا للدين وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وملائكتُه له عليهم نعمة كبرى،
وهم أيضا واسطة بين الله وبين الأنبياء وغيرهم لإيصال رحمته ونعمته وخيره لهم
وإليهم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة. وأنّ النِّعَم مما يسأل عنها في الآخرة،
وسؤالان من أسئلة القبر الثلاثة -بعد السؤال عن الرب- يكونان عن أكبر نعمتين
دينيتين هما: نعمة الدين والبعثة. وفي القبر العذاب والنعيم؛ فهو إما روضة مِن
رياض الجنان أو حفرة مِن النيران. كما أنّ آلاءه تعالى ونِعَمه مِن قَدَره
الخيري الموجِب للإيمان وشكر الله.
والمسائل
جمع مسألة، و"هي المطالب التي يبرهن عليها في العلم، ويكون الغرضُ مِن ذلك
العلم معرفتُها".
وتدور
كلمة العقيدة على معنى الربط والشدّ، والتأكيد، والملازمة، والعهد، يقال: عقد
قلبُه الشيء أو على الشيء، إذا لزمه.
والمسائل
العقدية: هو مطالب العقيدة ومباحثها
اليقينية التي هي الغاية لدارسة فن العقيدة، والتي يُبرهن لها بأدلة الكتاب
والسنة، وهي: القضايا المتعلقة بالاعتقاد، الشاملة لكافة مسائل الإلهيات في
الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ومسائل الغيبيات المتعلقة بالملائكة واليوم
الآخر والجنة والنار، ومسائل النبوات والرسل والرسالات، وما يلتحق بها من الإيمان
بجميع ما أخبر الله به وأخبر به رسوله وغير ذلك مما سبيله الإقرار والإذعان والجزم
واليقين والإيمان.
والنعم
جمع النعمة وهو قسيم النقم كما أنّ المنحة بالضد من المحنة، والنعم والآلاء والمنن
والمواهب هي جالبات السرور التي تحمد لها المآل.
والرسالة
تحتوي على مقدمةٍ، وتَمْهيدٍ، وبابَيْن، وخاتمةٍ، وفهارس فنِّية:
فالمقدمة فيها:
شرح مفردات العنوان، وأسباب اختيار الموضوع، والخطة والمنهج، ثم الشكر.
والتمهيد
ورد لبيان أصول النِّعم الدّينيّة والدُّنيويّة في القرآن والسّنة.
والباب
الأول: تبين فيه علاقةُ النِّعَم بمسائل
الإيمان بالله، وبمسائل الكفر، من خلال أربعة فصول:
الفصل
الأول: علاقة النِّعَم بمسائل توحيد
الربوبية. والثاني: لعلاقة النِّعَم بمسائل توحيد العبادة، وفيه أربعة
مباحث:
المبحث
الأول: شُكرُ النعمة غايةُ الرّبّ
مِن عبده، وبيان حقيقة الشكر وأنواعه.
والمبحث
الثاني: علاقة النِّعَم بإحدى عشر من عبادات
القلب.
والمبحث
الثالث: لعلاقة النِّعَم بإحدى عشر من
عبادات الجوارح.
والمبحث
الرابع: تبين فيه علاقة النِّعَم بإحدى
عشر من عبادات اللسان.
الفصل
الثالث: علاقة النِّعَم بمسائل توحيد
الأسماء والصفات، وفيه مبحثان:
المبحث
الأول: علاقة النِّعَم بـ:أسماء
الله تعالى، وفيه ثلاثة عشر مطلبًا.
المبحث
الثاني: علاقة النِّعَم بـ: صفات
الله تعالى، وفيه ثلاثة عشر مطلبًا.
الفصل
الرابع: علاقة النِّعَم بمباحث
الإيمان، والكفر بنوعَيه.
الباب
الثاني: علاقة النِّعَم ببقية
أركان الإيمان الخمسة، وبيان موجبات بقاء النِّعَم ومقتضياتها، وفيه ستة فصول:
الفصل
الأول: علاقة النِّعَم بالإيمان
بالملائكة.
الفصل
الثاني: علاقة النِّعَم بمسائل
الإيمان بالرسل الكرام.
الفصل
الثالث: علاقة النِّعَم بالإيمان
بالكتب.
الفصل
الرابع: علاقة النِّعَم بمسائل
الإيمان باليوم الآخر.
الفصل
الخامس: علاقة النِّعَم بمسائل
الإيمان بالقدر.
الفصل
السادس: ذكر موجبات بقاء النِّعَم،
ومقتضيات الإيمان بها.
ثم
الخاتمة والفهارس الفنِّية.
أهم
نتائج البحث:
أولا: مسائلُ الربوبية المتعلقة بالنعم يعود
قاعدتُها إلى الإيمان بأنّ جميع النعم والآلاء مِن خلق الله وإيجاده وملكه
وتصريفه، {وَمَا
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:
٥٣]. لأن الرَّبّ الخالق هو مُسدي جميع النعم،
وكثرة نعمه وتواليها مِن أدلة عنايته بخلقه.
ثانيا:
مسائل الألوهية هي التي ترجع إلى توحيده تعالى بأفعال العباد؛
الواقعة بقلوبهم وأقوالهم وأعمالهم، وبالجوارح واللسان، وهي كثيرة ومتشعبة،
وللإيمان والعمل بموجبها تعلق وارتباط بالنعم وموجباته.
ثالثا:
الشُّكرُ غايةُ الله في خَلقِه، مثلُه مثل العبادة، على حَدّ قوله: {وَاشْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: ١١٤]. وحقيقةُ الشُّكْر شاملٌ لاعتقادات القلب
وأقواله وأعمال القلوب والجوارح وأقوال اللسان، وأقَلُّ ما يَجِبُ للمنعِم على
مَن أنعم عليه: أنْ لا يَجعلَ ما أنْعَمَ عليه سَبيْلا إلى معصيتِه.
رابعا: أعمال القلوب
المتعلقة بالنعم ترجع إلى: معرفة النعم، وقبولها، وشُهودها وعدم الاحتجاب
عنها، والتفكر فيها، وتذكرها وعدم نسيانها، وتعظيم النعم وعدم احتقارها، وكذلك
محبة المنعم المتفضل على النعم وتعظيمه، وإحسان الظن بالله المنعم ورجاء حصول نعمه،
وخوف فوات النعم وزوالها وتغيرها إلى النقم، والاستبشار بالنعم والفرح بها،
ومجانبة طلب المحمدة بها والْمُرَاءَات بها، ومجانبة الحسد.
خامسًا:
عبادات الجوارح المتعلقة بالنعم ترجع إلى الشكر
بالأعمال، وإلى عمل التقوى الذي هو برهان الشكر، وفعل سجود الشكر عند حدوث النعم
وتجددها وإظهار النعم، وإراءة أثرها، والالتزام بعدم مظاهرة المجرمين، ومجانبة
الفخر والكبر والخيلاء والعجب والغرور بالنعم، وجزاء النعمة والإثابة عليها
والمكافأة.
سادسًا:
عبادات اللسان المتعلقة بالنعم ترجع إلى الشكر باللسان وقول: الحمد لله،
والثناء على الله بفواضله ونعمه، ومدح الذي لا أحد أحبّ إليه المدح منه، والاعتراف
والإقرار بالنعم، والتحدث بالنعم، والتبري من الحول والقوة وقول: ما شاء
الله لا قوة إلا بالله عند الإعجاب بالنعم، وسؤال الله النعم وتمامها وشكرَها
والنعيم المقيم، والتعوذ بالله مِن زوال النعمة وتحولها وفجاءة النقمة، وعدم المنّ
على الله والناس بالعمل، وشكر الناس على الجميل، والدعاء لهم.
سابعا:
توحيد الله في أسمائه وصفاته الذي هو الإيمان بها وإثباتها لله تعالى كما
أثبتَها لنفسه وأثبتَها له رسولُه صلى الله عليه وسلم حسَبَ وُرود ذلك في الكتاب
والسنة، له ارتباطٌ وثيقٌ بالنعم والآلاء، لأنّ النعم أثر لصفات جمال الله وبِرّه
وإحسانه.
-
فلفظة "المنعِم" ومثله "المفضِل"
عملا بقاعدة عدم تجاوز القرآن والسنة في تسميته تعالى بما سمى به نفسه وسماه به
رسولُه صلى الله عليه وسلم بالصيغة الاسمية، ليس هو مِن أسمائه تعالى الحسنى، بل
المنعم داخل في صفاته الفضلى لأنه ذو النَّعماء.
-
كما أنّ نِعَم الله
مرتبطةٌ باسمه تعالى الرَّبّ لأنه صاحب الربوبية على خلقه؛ وهو مُنشؤهم ومربيهم حالا
فحالا، طَوْرًا فطَوْرًا، مُنذ بداية خلقهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم فهم في حفظه
وكلائته، حتى تتم لهم الكمالُ في الحياة الدنيوية، ويُنَعِّمهم في القبر وفي
الجنة، والكفار أيضًا يتقلبون في نِعَمِه ورزقه ليل نهارٍ، لا يخرجون عنها طرفة
عين.
-
ارتباطُ نِعَم الله
باسْمَيْه تعالى "الله والإله" لأنّ المنعم الحقيقي الخالق هو صاحب استحقاق
الألوهية والعبودية لخلقه أجمعين.
-
ارتباطُ النعم بأسماء جمال
الله، التي هي: الرحمن الرحيم والبَرّ والرزاق والرازق والمقيت والمعطي والباسط
والكريم والأكرم والجواد والمحسن والوهّاب والمنّان واللطيف؛ لأنّ النعم مِن أثر
رحمته وبرِّه بعباده ورزقه وإقاتته لهم وإعطائه وبسطه وكرمه وجُوده وإحسانه وهبته
ومنِّه ولُطفه بعباده وفضلِه، على قاعدة: (مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ
وَرَحْمَتِهِ)، وغير ذلك مِن صفات
الله، ككونه ذا الفضل والطَّوْل والنعماء والجلال والإكرام، وأنه أرحم الراحمين
وخير الراحمين وذو الرحمة الواسعة وخير الرازقين وخير الفاتحين التي استلزمت
إنعامه وإكرامه وإفضاله العامة والخاصة، في الدين والدنيا والآخرة.
-
ارتباطُ النعم بأسمائه
تعالى "الحميد والشاكر والشَّكُور"، لأنَّه المحمود الذي يُثنى عليه
ويمدح ويمجَّد ويُشكَر بالقلب واللسان والجوارح، بسبب آلائه ونِعَمه وصفات كماله،
كما أنه الشَّكُور الذي يَقْبَل القليلَ مِن شُكْر عباده فيُكَثِّر جزاءَه ويوسِّعُه
ويضاعفه.
-
نِعَمُه تعالى الشاملة
المتتابعة دليلُ وحدانيته، وهو تعالى يُعطي ويهب لعلم وحكمة، حسب إرادته.
ثامنًا:
لا صحةَ للإيمان إلا باعتقاد أنّ جميع ما بالخلق مِن النعم فمِن
الله وحده؛ خَلْقًا وإيجادًا، ومُلكًا وتصريفًا واختصاصًا، لا شريكَ له في ذلك،
كما أنه لا شريكَ له في العبادة. وهذا من علاقة النعم بمباحث الإيمان. والإيمان
يزيد وينقص، ولا شك أنّ مِن أهم الأسباب الجالبة لمفقود الإيمان، والْمُقوية التي
تُنَمِّي موجودَه التفكّر في خلق الله وما فيها مِن مظاهر رحمته بخلقه وبرِّه وإحسانه،
وكرمه وعظيم جوده وإفضاله، وآلائه ومِنَنِه وإنعامه. والتَّعمقُ في معرفة أجناس
النعم وأنواعها وأفرادها بضميمة الوقوف على الأوجه التي صارت بها نِعَمًا عاملٌ
كبير مِن أسباب زيادة الإيمان.
تاسعًا:
كُفرُ النعمة الوارد في النصوص الذي يُعنى به إنكارُها وجحودها
وتكذيبها إنْ كان الواقع فيه: يعتقد أنّ نعمة ما، أو كلها، ليست مِن الله إيجادًا
وإعطاءً، أو أنها مِن الآباء والأجداد والقوة، أو أنها مِن عِلم العبد وحِذْقِه
بوجوه المكاسب، أو غير ذلك إنْ كان يعتقد أنّ ما سبق هو الموجِد للنعمة؛ فنَسَبَها
إليه بهذا المعنى: فإنه كفرٌ أكبر مخرجٌ لصاحبه مِن الملة. أما إنْ نسَبَها إلى استحقاقه
وعِلمه وحذقه وقوته، بضميمة اعتقاده أنّ الله هو الموجد لها، أو أنه نسبها إلى
سببٍ لم يجعله الله سبَبًا، كمن ينسب المطر للنجوم مع أنّ الله لم يجعل للنجوم
سببية للمطر، فهذا وغيرُه -على الصحيح- كُفرٌ أصغرُ لا يخرج صاحبَه من الدين.
عاشرًا:
النعمُ كما ارتبطتْ بمسائل الإيمان بالله، في
الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فهي أيضًا متعلقةٌ ببقية أركان الإيمان
الخمسة.
-
الإيمان بالملائكة
الكرام المقتضي للتصديق الجازم بكل ما جاء في النصوص مما
يتعلق بالملائكة من الصفات والوظائف قاضٍ بأنّ لله تعالى على الملائكة نِعَمًا كبرى
وآلاء جسيمة، مما ترجع إلى خلقه تعالى إياهم مجبولين على صفات خيِّرة من الإيمان به،
ولزوم طاعته على الدوام، وعدم عصيانهم إياهم، وتوفيقه تعالى لهم. كما أنّ الملائكة
واسطة في إيصال أنواع النعم للخلق في هذه الحياة وفي القبر وفي الجنة، على حدّ قول
الله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ
أَمْرًا} [الذاريات:
٤]، وقوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: ٢٧].
-
الإيمان بالكتب المنزلة يقتضي التصديق الجازم
والإقرار بكلّ كتاب أنزله تعالى، وأنها هي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وغير
ذلك، وكلها نزَلَتْ لهداية الخلق، ومن الإيمان بها الإيمان بكل ما جاء فيها مِن
ذكر أصول النعم ومتمماتها، التي أنعم بها تعالى والتي ينعم بها في الدنيا والآخرة،
ومنه أنّه تعالى أنعَم على أنبيائه ورسله بنعم لم ينعم بها على بقية خلقه، حيث
اصطفاهم لحمل رسالته، واختار بعضهم بإنزال كتبه عليهم.
-
الإيمان بالرسل الكرام المقتضي للتصديق
الجازم والإقرار بأنّ الله أرسل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لكل أمة
بالهداية إلى كل خير، وعلى رأسه التوحيد والإيمان، والتحذير مِن صنوف الغواية وكل
شر، وعلى رأسه الشرك والكفران. ومن علاقة النعم وموجباتها بمسائل الإيمان بالرسل
أنّ الأنبياء والمرسلين هم أعلى أصناف المنعَم عليهم الأربعة، ثم الصِّدّيقون ثم الشهداء
والصالحون. وأُولى نِعمتِه على هؤلاء
الكرام؛ لهم ولأقوامهم هو اجتباؤهم لحمل الأمانة، واختصاصهم بالوحي، وإيتاؤهم
النبوة وإرسالهم بالرسالة. تليها مِنَنُه العظيمة التي امتنّ بها عليهم وأَتمها
على آحادهم مما يدخل في باب الميزات والخصائص؛ فآدم عليه السلام ميَّزه تعالى بكونه أَبا
الْبَشَرِ، الذي خَلَقَه اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيه مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ
الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَه، ونوحٌ عليه السلام أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ
الْأَرْضِ، الذي سَمَّاه اللَّهُ عبدًا شَكُورًا، وإبراهيمُ خَلِيلُ الله هو
ونبيُنا محمد عليهما السلام مِنْ بين جميع أَهْلِ الْأَرْضِ، وموسى رَسُولُ
اللَّهِ الذي فَضَّلَه هو ونبينا محمد عليهما السلام واصطفاهما بِرِسَالَتِهِ
وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، وعيسى عليه السلام رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَقد كَلَّم النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
صَبِيًّا، ثم إنه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الحظ الأوفر حيث إنه عبد اللَّهِ ورَسُولُه
الذي بلَغ الغايات في الكمالات وتكميل العبوديات لربه، وَخَاتِمُ الْأَنْبِيَاءِ،
وسيّد الناس في الدنيا والآخرة، والذي يظهر سؤددُه يوم القيامة عندما يكون فيه
أُلوا العزم مِن الرسل ومَن دونهم تحت لوائه، وهو الذي خصَّه تعالى بأنْ غفَرَ له مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه وَمَا تَأَخَّرَ، ويحمده عليه الأولون والآخرون.
كما
أنّ الأنبياء والرسل الكرام هم أفضل مَن قاموا بشكر المنعم تعالى والنعم، وجانبوا
الكفران والجحود والبطر والنكران. ثم دعوا أقوامهم -سعيًا منهم لتكميل غيرهم- إلى
ذكر وتذكر النعم الإلهية، ودعَوْهم إلى شكر المنعم والنعم، وحذروهم من كفرانها.
-
الإيمان باليوم الآخر يقتضي التصديق
والإقرار الجازم بكل ما اتصل بهذا اليوم العظيم مِن أمور الآخرة، وجاء ذكره في
كتاب ربنا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنها حقٌّ لا ريبَ في وُقوعه. ومِن
علاقة هذا النوع مِن الإيمان بالنعم والآلاء: أنّ النعمة الحقيقية الكاملة هي ما
اتصلَتْ بسعادة الأبد في هذا اليوم، وارتبطَت بفَوز العبد فيه بالحصول على أكبر
النعيم الذي هو الحصولُ على رضوان الله، وإحلال الرضى على المؤمن، وإبعاده عن سخطه
تعالى، وتنعم المؤمن برؤية وجه الله الكريم في يوم يُحجَب عن رؤية الله المجرمون،
وكذلك الفوز بدخول الجنة والتنعم بما أَعَدّ تعالى فيها مِن النُّزل وصُنُوف
النعم، في جانب المآكل والمشارب والمناكح والمفارش والظلال.
-
القبرُ فيه السؤال عن
نعمة الدين والبعثة وعن الرَّبّ المنعِم تعالى، ويترتب على التوفيق للإجابة
الصحيحة لها إنعامه تعالى للعبد المؤمن الشاكر، بشتى أنواع النعم، فيكون القبر له
روضة من رياض الجنة.
-
قُطب رحى أسباب
النعيم في القبر وفي الآخرة التي عليها تدور هما الإيمان بالرب المنعم المتفضل
وشكره وشكر آلائه ونعمه {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ نعمته
وَآمَنْتُمْ} [النساء: ١٤٧].
-
السؤال بعد البعث وفي
الحشر يكون عن جميع نعم الدنيا {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ
عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: ٨].
-
غلَب إطلاق
"النعيم" -على وزن "فعِيْل" الذي فيه اللزوم والثبوت- لِنِعَم
القبر والآخرة؛ لأنها السعادةُ الحقيقيةُ التي لا تمنع ولا تَنقطِع، {وَأَمَّا
الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: ١٠٨]، وفي الحديث: أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى
شَبَابُهُ»([1]). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يُنَادِي
مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ
أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا
تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا
أَبَدًا" ... الحديث([2]).
-
الجنةُ هي النعمة
المطلقة والسعادة الأبدية، ودخولها هو الفوز العظيم والفوز
الكبير والملك الكبير، فلا جوعَ فيها ولا ظمَأَ ولا عُري ولا شمسَ ولا زمهريرَ،
وإذا غمس فيها أبأَسُ أهل الدنيا أيقَنَ أنه لم تَمُرّ به بُؤْسٌ قط.
-
نعمتان جليلتان في
الآخرة أكبر وأعظم من التنعم بما أُعدّ مِن النعم للمؤمن
في الجنة، هما: لذة النظر إلى وجه الله الكريم، ونعمة الحصول على رضوانه تعالى
وعدم سخطه أو احتجاب الله عن العبد {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: ٧٢]، وفي الحديث: أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ
يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ
رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ! فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟
فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ
تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟
فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيّ شَيءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ
عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي؛ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا»([3]). وعَنِ النَّبِي صلى
الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ –قَالَ-
يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟
فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ،
وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ -قَالَ- فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا
أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل»([4]). ... الحديث.
-
الإيمان بالقدر خيره
وشَرّه يقتضي التصديق الجازم والإقرار بأنّ كلَّ موجودٍ
فالله عالِمٌ بوجوده أزلا، وكتَب ذلك في كتابٍ عنده، وشاء خلقَه، لأنّ ما شاء كان
كما شاء في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا
تقدُّمٍ ولا تأخُّرٍ. ثم أوجد ذلك المخلوق على الوجه الذي أراده. وإنَّ من علاقة
النعم بمسائل الإيمان بالقدر أنّ كل نعمة مع أنها ابتلاء فهي مِن قدر الله؛ خيره
وحُلوه التي يبتليها عباده، وقد علِمَها أزلا وأبدًا كما قال: {اللَّهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: ١٢٤], وقال الكفار: {أَهَؤُلَاءِ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:
٥٣]. وقد كتبها سبحانه جملة وتفصيلا, ضمن ما كتبه القلم
وسطَّرها أول ما خلقه الله. كما شاء كونها أزلا وأرادها قبل نفاذها, كما قال عن
الهداية: {يَهْدِي
مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: ١٤٢], وقال عن الرحمة: {وَيَرْحَمُ
مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: ٢١]، ومثله عن التأييد
والنصر والاجتباء. وهو تعالى خالق النعم الذي أوجدها ويوجدها قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: ٦٢], ومما يدخل في عموم
كلمة (كل شيء) النعم.