مستخلص الدراسة
بسم
الله، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإنه
ولجمع النصوص في بيان نِعَم الله وآلائه، ثم دراستها دراسة عقدية كانت
أطروحتي التي تمت مناقشتها بالجامعة الإسلامية في العام الدراسي 1439-1440هـ وذلك استكمالا
لمتطلبات الحصول على درجة العالمية العالية (الدكتوراه) تحت عنوان:
"المسائلُ
العقديةُ الْمتعلِّقةُ بالنِّعَمِ -جمعًا ودراسة-". وقد خلُصت إلى نتائج،
أبرزها:
أولا:
مسائلُ الربوبية المتعلقة بالنعم يعود قاعدتُها إلى الإيمان بأنّ
جميع ما بالخلق من النعم فمِن خلقه تعالى وإيجاده وملكه وتصريفه، {وَمَا
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:
٥٣]. وكثرة النعم وتواليها مِن
أدلة عنايته تعالى بخلقه.
ثانيا: مسائل الألوهية ترجع إلى توحيده تعالى بأفعال العباد؛
الواقعة بقلوبهم وأقوالهم وأعمالهم، وهي متشعبة، وللإيمان والعمل بموجبها تعلق
وارتباط بالنعم.
ثالثا: الشُّكرُ غايةُ الله في خَلقِه، كالعبادة، على حَدّ قوله: {وَاشْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: ١١٤]. وحقيقتُه شاملٌ لأعمال القلوب والجوارح
وأقوال القلب واللسان.
رابعا: أعمال القلوب المتعلقة بالنعم ترجع إلى:
معرفة النعم، وقبولها، وشُهودها، والتفكر فيها، وتذكرها وعدم نسيانها، وتعظيم
النعم وعدم احتقارها، وكذلك محبة المنعم المتفضل على النعم وتعظيمه، وإحسان الظن
بالمنعم تعالى ورجاء حصول خيراته ونعمه، وخوف فواتها وزوالها وتغيرها إلى النقم،
والاستبشار بالنعم والفرح بها، ومجانبة طلب المحمدة بها والْمُرَاءَات، ومجانبة
الحسد، ومجانبة الفخر والكبر والخيلاء والعجب والغرور بالنعم.
خامسًا: عبادات الجوارح المتعلقة بالنعم ترجع إلى: الشكر
بالأعمال، وإلى التقوى فعلا وتركًا الذي هو برهان الشكر، وفعل سجود الشكر عند حدوث
النعم، وإظهار النعم وإراءة أثرها، والالتزام بعدم مظاهرة المجرمين، وجزاء النعمة
والإثابة عليها والمكافأة.
سادسًا: عبادات اللسان المتعلقة بالنعم ترجع إلى: الشكر
باللسان وقول كلمة الحمد والثناء على الله بفواضله ونعمه، ومدح الذي لا أحد أحبّ
إليه المدح منه، والاعتراف والإقرار بالنعم، والتحدث بالنعم، وقول: ما شاء
الله لا قوة إلا بالله عند الإعجاب بالنعم تبريًا مِن الحول والقوة، وسؤال الله
النعم وتمامها وشكرَها والنعيم المقيم، والتعوذ بالله مِن زوال النعمة وتحولها،
وشكر الناس على الجميل، والدعاء لهم.
سابعا: توحيد الله في أسمائه وصفاته الذي هو إثباتها لله
تعالى كما أثبتَها لنفسه وأثبتَها له رسولُه صلى الله عليه وسلم حسَبَ وُرودها في
الكتاب والسنة، له ارتباطٌ وثيقٌ بالنعم والآلاء، لأنّ النعم أثر لصفات جمال الله
وبِرّه وإحسانه.
·
لفظتا "المُنْعِم" و"المُفْضِل"
عملا بقاعدة عدم تجاوز القرآن والسنة في تسميته تعالى بما لم يُسمّ بها نفسَه ولم
يُسمّه بها رسولُه الكريم، ليسا مِن أسمائه تعالى الحسنى، بل المنعم والْمُفضِل داخلان
في صفاته تعالى لأنه ذو النَّعماء والإفضال.
·
كما أنّ نِعَمه مرتبطةٌ
باسمه تعالى "الرَّبّ" لأنه صاحب الربوبية على خلقه؛ ومرتبطة باسْمَيْه
"الله والإله" لأنّ المنعم الحقيقي الخالق هو صاحب استحقاق الألوهية
والعبودية على خلقه أجمعين.
·
ارتباطُ النعم ببقية أسماء
جمال الله، التي هي: الرحمن الرحيم والبَرّ والرزاق والكريم والرازق والأكرم والمقيت
والمعطي والباسط والجواد والمحسن والوهّاب والمنّان واللطيف؛ لأنّ النعم مِن أثر
رحمته وبرِّه بعباده ورزقه وإقاتته لهم وإعطائه وبسطه وكرمه وجُوده وإحسانه وهبته
ومنِّه ولُطفه بعباده وفضلِه، على قاعدة: (مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ
وَرَحْمَتِهِ)، وغير ذلك مِن صفات
الجمال، مثل كونه ذا الفضل والطَّوْل والنعماء والجلال والإكرام، وصفات أرحم
الراحمين وخير الراحمين وذو الرحمة الواسعة وخير الرازقين وخير الفاتحين التي
استلزمت إنعامه وإكرامه وإفضاله العامة والخاصة، في الدين والدنيا والآخرة. والله تعالى يهب لعلم
وحكمة، حسب إرادته.
·
ارتباطُ النعم بأسمائه
تعالى "الشاكر والحميد والشَّكُور"، لأنَّه المحمود الذي يُثنى عليه
ويمدح ويمجَّد ويُشكَر بالقلب واللسان والجوارح، بسبب آلائه ونِعَمه، كما أنه
الشَّكُور الذي يَقْبَل القليلَ مِن شُكْر عباده فيُكَثِّر جزاءَه ويوسِّعُه
ويضاعفه.
ثامنًا: لا صحةَ للإيمان إلا باعتقاد أنّ جميع
ما بالخلق مِن النعم فمِن الله وحده؛ خَلْقًا وإيجادًا، ومُلكًا وتصريفًا
واختصاصًا، لا شريكَ له في ذلك، كما أنه لا شريكَ له في العبادة. والإيمان
يزيد وينقص، ومِن أهم الأسباب الجالبة لمفقود الإيمان، والْمُقوية التي تُنَمِّي
موجودَه التفكّر في خلق الله وما فيها مِن مظاهر رحمته بخلقه وبرِّه وإحسانه وعظيم
جوده وإفضاله، لأنّ التَّعمق في معرفة أجناس النعم وأنواعها وأفرادها عاملٌ كبير
مِن أسباب زيادة الإيمان.
تاسعًا: كُفرُ النعمة يُعنى به إنكارُها وجحودها وتكذيبها، إنْ كان
الواقع فيه: يعتقد أنّ نعمةً ما، أو كلَّها ليسَتْ مِن الله إيجادًا وإعطاءً، أو
أنها مِن الآباء والأجداد والقوة، أو أنها مِن عِلم العبد وحِذْقِه وعلمه بوجوه
المكاسب، أو غير ذلك إنْ كان يعتقد أنّ ما سبق هو الموجِد للنعمة؛ فنَسَبَها إليه
بهذا المعنى: فهو كفرٌ أكبرُ مخرجٌ مِن الملة. أما إنْ نسَبَها إلى استحقاقه وحِذقه
وقوته، مع اعتقاد أنّ الله هو الموجد لهذه النعمة، أو نسبها إلى سببٍ لم يجعله
الله سبَبًا، كمن ينسب المطر للنجوم مع أنّ الله لم يجعل للنجوم سببية للمطر، فهذا
وغيرُه -على الصحيح- كُفرٌ أصغرُ لا يُخرِج صاحبَه مِن الدين.
عاشرًا: النعمُ كما ارتبطتْ بمسائل الإيمان بالله، في
الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فهي أيضًا متعلقةٌ ببقية أركان الإيمان
الخمسة؛
§
فالإيمان بالملائكة
الكرام قاضٍ بأنّ لله تعالى عليهم نِعَمًا كبرى ترجع إلى:
خلقه تعالى إياهم مجبولين على صفات خيِّرة من الإيمان به، ولزوم طاعته على الدوام،
وعدم عصيانهم إياه، وتوفيقه تعالى لهم. كما أنّ الملائكة واسطة في إيصال أنواع النعم للخلق في الدنيا
وفي القبر وفي الجنة، على حدّ قوله: {فَالْمُدَبِّراتِ أَمْرًا} [النازعات:
5]، وقوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: ٢٧].
§
ومن الإيمان بالكتب المنزلة التي نزَلَتْ لهداية
الخلق، التصديق الجازم والإقرار بكلّ ما جاء فيها مِن ذكر أصول النعم ومتمماتها،
التي يُنْعِم بها تعالى في الدنيا والآخرة.
§
ومن علاقة النعم بمسائل
الإيمان بالرسل الكرام أنّ الأنبياء والمرسلين هم أعلى أصناف
المنعَم عليهم، ثم الصِّدّيقون والشهداء والصالحون. وأُولى
نِعَمِه تعالى على هؤلاء الكرام؛ لهم ولأقوامهم هو اجتباؤهم لحمل الأمانة،
واختصاصهم بالوحي، وإيتاؤهم النبوة والكتاب وإرسالهم بالرسالة. تليها مِنَنُه التي
امتنّ بها عليهم وأَتمها على آحادهم مما هو داخلٌ في باب الميزات والخصائص. وجنسهم
أيضًا هو أفضلُ مَن قام بشكر المنعِم تعالى على نعمه، وجانبوا كفران النعم والجحود
والبطر والنكران. ثم دعوا أقوامهم إلى تذكر النعم، وإلى شكر المنعم والنعم، وحذّروا
مِن كفرانها.
§
ومِن علاقة الإيمان
باليوم الآخر بالنعم والآلاء: أنّ النعمة الحقيقية الكاملة هي ما اتصلَتْ
بسعادة الأبد، وارتبطَت بفَوز العبد بدخول الجنة والتنعم بما فيها مِن الحصول على
رضوان الله تعالى، ورؤية المؤمن وجه الله الكريم وتناول بقية النعم، في جانب
المآكل والمشارب والمناكح والمفارش والظلال.
§
القبرُ فيه السؤال عن
نعمة الدين والبعثة وعن الرَّبّ المنعِم تعالى، ويترتب على التوفيق للإجابة لها
إنعامه تعالى للعبد المؤمن الشاكر، بشتى أنواع النعم، فيكون القبر له روضة من رياض
الجنة. وجامع أسباب النعيم في القبر وبعد الخروج منه هما الإيمان بالرب
المنعم المتفضل وشكره على آلائه: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: ١٤٧].
§
السؤال بعد البعث وفي
الحشر يكون عن جميع نعم الدنيا {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ
عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: ٨].
§
غلَب إطلاق
"النعيم" الذي فيه اللزوم والثبوت على نِعَم القبر والآخرة؛ لأنها
السعادةُ الحقيقيةُ التي لا تمنع ولا تَنقطِع، وفي الحديث: أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:
"يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا،
وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ
تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا
تَبْأَسُوا أَبَدًا" ([1]).
§
الجنةُ هي النعمة
المطلقة والسعادة الأبدية، ودخولها هو الفوز العظيم والفوز
الكبير والملك الكبير، فلا جوعَ فيها ولا ظمَأَ ولا عُري ولا شمسَ ولا زمهريرَ،
وإذا غمس فيها أبأَسُ أهل الدنيا أيقَنَ أنه لم تَمُرّ به بُؤْسٌ قط. وفي الآخرة نعمتان
جليلتان هما أكبر وأعظم من التنعم بما أُعدّ مِن النعم للمؤمن في الجنة، هما:
لذة النظر إلى وجه الله الكريم، ونعمة الحصول على رضوانه تعالى وعدم سخطه أو
احتجابه تعالى عن العبد، قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: ٧٢]، وعَنِ النَّبِي صلى
الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ –قَالَ-
يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟
فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ،
وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ -قَالَ- فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا
أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل»([2]).
§
إنَّ من علاقة النعم
بمسائل الإيمان بالقدر أنّ كل نعمة مع أنها ابتلاء فهي مِن قدر
الله؛ خيره وحُلوه التي يبتليها عباده، وقد علِمَها أزلا وأبدًا كما قال: {اللَّهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: ١٢٤], وقال الكفار: {أَهَؤُلَاءِ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:
٥٣]. وقد كتب سبحانه المقدرات جملة وتفصيلا, ضمن ما
كتبه القلم وسطَّرها أول ما خلقه الله. كما شاء كونها أزلا وأرادها قبل نفاذها, كما قال عن
الهداية: {يَهْدِي
مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: ١٤٢], وقال عن الرحمة: {وَيَرْحَمُ
مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: ٢١]. وهو تعالى خالق النعم التي يوجدها، قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: ٦٢], ومما يدخل في عمومه النعم.
No comments:
Post a Comment